فرعان مهمان من فروع الشريعة الإسلامية، يحتاج إليهما الناس في الجوانب العامة والخاصة، ولا يمكن لمسلم أن يستغني عنهما، وهما علم الفقه وعلم السياسة الشرعية.
ويطلق الفقه على: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، وهذه الأدلة تنقسم إلى قسمين؛ الأول: أدلة أصلية، والثاني: أدلة فرعية، أما الأدلة الأصلية فهي الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، وهي المصادر الأصلية للأحكام الفقهية، أما الأدلة الفرعية، فهي الآراء المعتمدة على المصالح المرسلة والاستحسان والعرف وسد الذرائع وغيرها، وهي المصادر الفرعية للأحكام الفقهية، كما تعد مصادر أصلية للسياسة الشرعية.
فإذا قلنا: إن مصادر الأحكام الفقهية مقتصرة على الأدلة الأصلية، فإن المصادر الفرعية التي تعد مصادر للسياسة الشرعية تجعل الفرق واضحاً بين الفقه والسياسة الشرعية، وإذا قلنا: إن للفقه مصادر أصلية وفرعية؛ فإن السياسة الشرعية تعد فرعاً من فروع الفقه، حيث إن السياسة الشرعية هي التصرفات المتعلقة بإصلاح حال بالراعي والرعية، اعتماداً على المصالح العامة للناس، وفق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
أدلة على الارتباط بين أدلة الفقه والسياسة الشرعية
إن الارتباط بين الفقه المعتمد على الكتاب والسُّنة، والسياسة الشرعية المرتكزة على رأي أولي الأمر، أمر ثابت بالكتاب والسُّنة، ففي القرآن الكريم يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59)، ففي الآية حث على الرجوع إلى كتاب الله وسُنة رسول الله، ثم إلى أولي الأمر، وفي آية أخرى يقول عز وجل: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83).
وفي السُّنة النبوية يمكن الاستدلال على الارتباط بين الفقه والسياسة الشرعية بما رواه الإمام أحمد في مسنده عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: «كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟»، قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟»، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟»، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، لَا آلُو، قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ».
ففي هذا الحديث ربط بين الاعتماد على كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاجتهاد بالرأي كمرحلة ثالثة من مراحل الاستنباط والفهم في التطبيق الإسلامي الذي يعالج الأحداث والمواقف.
مظاهر العلاقة بين الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية
1- التكامل بين الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية:
يرتبط الفقه والسياسة الشرعية ببعضهما ارتباطًا وثيقًا، حيث يشتركان في الهدف الأساس، وهو تحقيق مصالح الناس وفق أحكام الشريعة الإسلامية، فهما يتكاملان في بناء النظام الإسلامي الذي يحكم حياة المسلمين في مختلف المجالات، فالفقه يضع الأسس والقواعد والأحكام، مثل قاعدة «دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة»، والسياسة الشرعية تسعى إلى تطبيق هذه القاعدة وغيرها، بما يحقق مصالح الأمة وفق مقاصد الشريعة، والفقه يُحدد الأحكام الشرعية المتعلقة بالسياسة، مثل شروط الإمامة، الأحكام المتعلقة بالخلافة، والعقوبات الشرعية، والسياسة الشرعية تُطبق هذه الأحكام على أرض الواقع، مع مراعاة تغير الزمان والمكان والأحوال.
2- التداخل بين الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية:
التداخل يعني الالتقاء حول شيء واحد، وهذا الالتقاء واضح بين الفقه والسياسة الشرعية من زاوية أن علم الفقه يتناول الأحكام الشرعية الفردية والجماعية، مثل أحكام الصلاة، والصيام، والمعاملات، والعقوبات، والسياسة الشرعية تهتم بتنظيم العلاقات العامة وإدارة شؤون الدولة بما يحقق العدالة ويضمن استقرار المجتمع، فكلاهما يعمل في إطار تطبيق أحكام الشريعة، لكن السياسة الشرعية تركز على القضايا ذات الطابع العام.
3- الوحدة المقاصدية بين الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية:
الوحدة المقاصدية هي الاشتراك بين الجانبين في الهدف الذي يسعيان إلى تحقيقه، فكل من الفقه والسياسة الشرعية يسعى إلى نفس الهدف والغاية؛ وهو تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة؛ وهي حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل، لكن الفقه يسعى إلى تحقيق هذه المقاصد من خلال التشريع لما يجب على المسلم فعله حتى يصل إلى هذه الغاية، أما السياسة فهي تهتم بالتأطير والتنظير والبيان والتطبيق العملي لهذه القوانين في سياق الدولة والمجتمع.
4- الاجتهاد في المستجدات بين الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية:
يُقدم الفقه الأدوات والمنهجية للاجتهاد في المستجدات، من خلال أصول الفقه والقواعد الشرعية، بينما تعتمد السياسة الشرعية على الاجتهاد الفقهي للتعامل مع المستجدات التي لا نص فيها، مثل قضايا النظام السياسي الحديث، والعلاقات الدولية، والأزمات الاقتصادية.
5- التعاون بين الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية في الوقاية من الأخطار:
إن الفقه الإسلامي يسعى إلى استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، بحيث يبين للمسلم ما يحل له وما يحرم عليه، وما يسن في حقه، وما يكره، وما هو مباح من الأعمال، فإذا نظر المسلم في الفقه، ووجد هذه الأحكام فإنه يفعل ما يباح له وما يجب في حقه، ويمتنع عما يكره ويحرم في حقه من الأفعال، فيكون ذلك حماية له من ارتكاب المحرمات.
وتأتي السياسة الشرعية لتصوغ هذه الأحكام في شكل قوانين وممارسات ترعاها الدولة وتصونها الأمة، فيسهل تطبيقها من خلال القوانين والأجهزة المعينة على ذلك، وهنا يتبين أن السياسة الشرعية بدون الفقه قد تنحرف عن أحكام الشريعة، بينما علم الفقه بدون السياسة الشرعية قد يكون محدود التطبيق في الواقع المعاصر، لذلك فإنهما يتعاونان لتحقيق الخير والوقاية من الشر.