قال أحدهم ناعيًا وباكيًا سقوط الطاغية بشار الأسد، وغاضبًا من انتصار الشعب السوري، وانتزاع حريته: «آه يا سورية الحبيبة، الطعنة غائرة في قلب العروبة لكن العروبة لن تموت»!
من حق القائل أن يؤمن بما يشاء، ويدافع عمّن يشاء، ومن حق الناس أن يسألوه: هل سقوط طاغية قتل وذبح وهجّر ودمّر وقمع ومنع وأقصى واستأصل وقسّم بلاده واستورد غزاة ومحتلين من كل حدب وصوب يجعل سقوطه طعنة في قلب العروبة؟
ثم ما تلك العروبة التي طُعنت، وأدمى طعنها القلوب والصدور، في سورية أو الإقليم الشمالي لمصر (سابقًا)؟ هل هي عروبة الطائفة النصيرية العنصرية التي تمكنت من قلب البلاد وأحشائها، بدءاً من منصب الرئاسة إلى الجيش الذي عُرف بين الناس بالجيش العلوي، وتصدّر قيادته قتلة محترفون أولهم ماهر الأسد شقيق الطاغية، وثانيهم سهيل الحسن، قائد ما يسمى بـ«قوات النمر» التي استباحت الأبرياء، وذبحت الشرفاء، وسجنت من لا ذنب لهم ولا جريرة، واغتصبت الحرائر بالمئات، حتى وصل التمكن إلى أصغر الوظائف؟!
هل العروبة التي لم تقتل ذبابة يهودية طوال 5 عقود، ولم تدافع عن شرف دمشق العاصمة والمدن الأخرى، بينما العدو النازي يتسلى بصورة شبه يومية في أجواء العروبة يضرب ويقصف ويدمر ولا تواجهه طلقة واحدة، بل قيل مؤخرًا: إن الطاغية الهارب كان يسلم مخابرات العدو إحداثيات المواقع التي تخزّن فيها إيران أسلحتها لتحرقها؟!
هل العروبة التي ذبحت أكثر من مليون مسلم سُنّي سوري، بالكيماوي والبراميل المتفجرة، وأسلحة المحتلين الفرس والروس والمليشيات القادمة من أرجاء التعصّب المذهبي، ثم هجّرت أكثر من نصف سكان سورية الحبيبة في بقاع الأرض؟!
هل تكون الصداقة والولاء للطاغية الهارب فوق القيم والأخلاق التي ترفض الاستبداد والظلم والوحشية والتعصب والعنصرية والانتقام الأهوج، وقهر الأقلية للأكثرية بالحديد والنار؟!
لا أريد أن أذكّر بالتاريخ السلوكي لمن يرون تحرير شعب مظلوم طعنة في قلب العروبة، فهو حافل بالممارسات التي لا تشرف أصحابها ولا تخدم الفكر الذي يزعمونه، ولا الانتماء الذي يدّعون أنهم يعيشونه!
ماذا تكون العروبة بعيداً عن الإسلام الذي رفعها وجعل لها قيمة حضارية حين نزل القرآن عربياً، ونشر لغتها بين العالمين، وحمل حضارة العرب إلى أرجاء الأرض؟
العروبة بدون الإسلام لا قيمة لها، وقد جرب القوميون العرب حكم العالم العربي منذ 80 عاماً، فلم يحصدوا بإسقاط الإسلام إلا خرط القتاد؛ هزائم ونكسات ووكسات وتخلفاً واستبداداً وفتناً وتقسيماً ومعرّة بين العالم.
إن رهاب الإسلام الذي يسيطر على الثقافة الراهنة هو الثورة المضادة التي حرمت الشعوب العربية من نعمة الحرية والأمان، لو أن قيم الإسلام سادت لحققت الأمة إيجابيات كثيرة على رأسها الاستقلال عن الغرب الاستعماري، والاكتفاء الذاتي في الأساسيات، والتقدم في مجالات العلم والمعرفة والثقافة والفنون.
تطالب الثورة المضادة بالعلمانية وتنادي برفض الإسلام الذي تسميه الظلامية والرجعية والتخلف، ومع أن الزمان في بلاد التوجيه والتأثير الاستعمارية تجاوز العلمانية إلى ما بعد العلمانية، فقد عاشت سورية الحبيبة في عهد الطغيان الأسدي أزهى عصور العلمانية، وتفوقت على دول الغرب التي تدعي علمانيتها، فحاربت الإسلام، وعدته قريناً للإرهاب، وأضحى كل مسلم إرهابياً حتى يثبت العكس، لدرجة أن صراعات الأفراد وتنافسهم داخل المجتمع حوّل من لا خلاق لهم إلى وشاة ومخبرين يتهمون زملاءهم بتهمة الإرهاب أو الإسلامية، فيلحقون بهم الأذى أو يحرمونهم من وظائفهم أو حقوقهم.
لقد منعت العلمانية النصيرية البرامج الإسلامية في التلفزيون السوري، وجعلت إطلاق اللحية للأئمة والخطباء يمرّ على أجهزة الأمن لطلب موافقتها، ونشر الناشطون صوراً للموافقات الأمنية، ثم جعلت العلمانية النصيرية المسجد الأموي مجرد مزار سياحي تصلي فيه الفرائض دون أن يرفع أذانه على الشاشة، وللإنصاف لم يكن النصيريون الطائفيون وحدهم، فهناك من اخترع البطاقة الممغنطة لصلاة الجمعة كما حدث في تونس على عهد زين العابدين بن علي!
وهناك من يرى في المساجد مفارخ للإرهاب فيغلق المساجد ولا يفتحها إلا في أوقات الصلاة، حتى دورات المياه الملحقة بها ويستخدمها العامة، تُغلق ولا تُفتح إلا مع دقائق الصلاة، وهو ما يحوّل الإسلام في الذهن العام إلى مصدر للخطر والخوف والرعب، نجحت العلمانية الفاشلة في تخويف المسلمين من الإسلام، وهو ما لم تستطعه جيوش الغرب واليهود الاستعمارية الغازية!
تفوقت العلمانية الطائفية النصيرية على علمانية الآخرين حين قدمت هداياها لدولة ساعدت الطاغية في ذبح شعبه بما سمته «صبايا العطاء»!
50 ألف فتاة من أبناء سورية الحبيبة أطلق عليهن «صبايا العطاء» بينهن بنات وزوجات كبار مسؤولي الاستخبارات والجيش في النظام، يقدمن المتعة النفسية لجنود الاحتلال الروسي، ويرفهن عنهم تقديراً لدورهم في سحق المسلمين السُّنة وقتلهم بـ«الميج» المتطورة و«السوخوي»!
نشرت وكالة «ANNA» الروسية، في 8 ديسمبر 2024م، (يوم سقوط النظام) عدداً من الصور لعناصر من الشرطة العسكرية الروسية برفقة «صبايا العطاء»، في احتفالية ثقافية بمدينة حلب الخاضعة لسيطرة النظام، شمال سورية، وعدّ بعضهم «صبايا العطاء» ظاهرة جديدة على الواقع السوري، وكان الأسد قد انتهج السياسة ذاتها عبر «صبايا العطاء» المقربات والمواليات للنظام، واللاتي ظهرن في صور وهن يحتضن الطيارين الروس في قاعدة حميميم العسكرية، وكان ذلك بمثابة رسالة شكر للطيارين الروس في مكافحة «الإرهاب» (الإسلام!).
وتعدّ مجموعة «صبايا العطاء» من أكثر الجهات غير الرسمية في نظام الأسد، ولكنها في ذات الوقت تحظى بدعم غير معهود من قبل كبار الشخصيات العسكرية والأمنية النافذة لدى النظام.
وكي تكتمل الملهاة/ المأساة جاء حلول أحمد حسون، مفتي النظام، ضيفاً على مأدبة إفطار، أقامتها «صبايا العطاء»، حيث تحولت المأدبة إلى مثار للسخرية والاستهزاء من حسون وتصرفاته، التي وصلت حد الفجاجة، وكسر خلالها كل الأعراف المرتبطة بمنصبه ودوره في الدولة والمجتمع، وقدمته امرأة ترتدي تنورة قصيرة، شأنها شأن غالبية الفتيات اللاتي نظمن الحفل، ومنهن رئيسة مجلس إدارة الجمعية عليا خير بك، حتى سمّي الحفل بـ«حفل التنانير القصيرة».
الثورة المضادة للحرية تنادي بحرية المرأة والأقليات والسلوك الشخصي، وترى في قادة الثورة إرهابيين عملاء للغرب واليهود، ولا تتوقف عن التشهير بقائد الثورة وتجريده من الانتماء إلى عائلته ووالده الذي كان قومياً ناصرياً وحارب الاستعمار الفرنسي وألَّف كتاباً وطنياً مهماً!
إذا كانت الثورة المضادة خارجياً وداخلياً تسعى لإدخال الشعب السوري مرة أخرى إلى سجن صيدنايا ونظرائه، فمن حق الثورة أن تدافع عن نفسها، وأن تتمسك بالإسلام الذي كان عنوان الخلافة الأموية سيدة العالم في حينه، وأن تمثل الأكثرية خير تمثيل، ما رأينا السادة المنادين بالعلمانية والقومية يفكرون ولو للحظة في تغوّل الأقلية النصيرية أو غيرها من الأقليات على الأكثرية المسلمة حتى وصفت بالأقليات السعيدة، عندما تحتكر الأقليات السلطة وتوابعها، لا تفكر أن تشرك معها الأكثرية الإسلامية، بل تحاربها بغير هوادة تحت مسميات مكافحة الإرهاب والتشدد والتطرف والرجعية والظلامية والتخلف، وبعد أن ينزلوا من عليائهم يتصايحون: لا بد من مشاركة الأقليات، وطوائف المجتمع!
لم يفكر القوم في تحرير آلاف النساء المغتصبات في سجون الطائفة- ولا أقول الوطن- ولم يدافعوا عن حق المسلمين في صيام رمضان أمام إفطار قادة الطائفة وجلاديهم وأتباعهم في وضح النهار، إن حرية شرب الخمور (يسمونها الكحول)، ومخاصرة النساء في الشوارع، وتقنين البغاء، لا تعني أن الوطن حر ومستقل.
حرية الوطن تعني أن يتحرّر من الشبيحة والبلطجية، واستقلال الوطن أن يعيش المواطنون في أمان، وأن يشاركوا في تقرير مصائرهم، وأن يختاروا الطريقة التي تروقهم في الحياة، وفقاً لهويتهم ومعتقدهم وتاريخهم ومستقبلهم.
الشبيحة والبلطجية أصحاب الياقات المنشاة، لا يختلفون عن الشبيحة والبلطجية الحقيقيين على الأرض، كلهم معاد للحرية، والكرامة الإنسانية، وحق لهم أن يبكوا الطاغية الذي سقط وحرمهم من ممارسة لذة الإجرام ضد الشعب والحرية والأمل!