في زمننا هذا أصبحنا نشكو من انفراط عقد القيم والسلوكيات الفاضلة التي كانت راسخة قبلاً في المجتمعات المسلمة، صحيح أن المجتمعات لم تكن ملائكية السيرة والسلوك، ولم تكن نقية من كل درن، طاهرة من كل خبث؛ لكن كان مجموع ما ينتشر بينها كان رائعاً، وكانت الأموال والأعراض والنفوس في عموم المجتمعات الإسلامية مصونة، وكانت سلطة الدين والضمير أقوى من سلطة القانون والأنظمة، وكانت الأعراف السائرة لها سلطة القانون، وجلها كان مستمداً من أصول الشريعة.
كانت بيوت الناس ومحلاتهم مفتوحة بلا أحراز، وكانت مساجدهم عامرة بالعباد، وكانت الأوقاف والأحباس تقف لكل ذي حاجة وذي فاقة لتسدها، بداء من الفقر والمرض، وصولاً للتعليم والزواج وغيرهما من المتطلبات المجتمعية.
وهنا يبرز السؤال: أين نحن اليوم مما كان بالأمس؟
لقد غدت سلطة الضمير على هامش الحياة، وغزت المادية حياتنا، وتهاوت مكارم الأخلاق بشكل مزعج، فأين الداء؟ وكيف الدواء؟
علل طافية
ينبغي أن نشير إلى العلل التي غزت مؤسسات التعليم، ودخلت المؤسسات الخدمية، وانتشرت الرشوة في قطاعات لا حصر لها بين الموظفين، وفشت أخلاق النفاق وطرائق العصاة في كل ناحية.
أصبحت الأسرة على شفا جرف هار، فالعنوسة أصبحت مفزعة، وحالات الطلاق كذلك، أما اللقطاء وأطفال الشوارع فصارت حكايا تزكم الآناف، ولن أقدم هنا للقارئ إحصاءات تمتلئ بها المنصات الحكومية والمواقع الرسمية، فهي متاحة لمن رغب في معرفتها إذا أراد.
يمكننا أن نقرر -ولكن بحزن وحسرة- انفراط عقد شعب الإيمان، وهي الضمانة المجتمعية للسلوك الرشيد، وهي العلامة الصحيحة على استقامة المجتمع، فقد أفردها العلماء بالتآليف ترغيباً في بقائها بين الناس.
إننا حين نقرر هذا الواقع البائس لا نقول: فسد الناس، وعم البلاء، ولا أمل في الإصلاح.. كلا، فلا تزال حبال الخير موصولة، ولا يزال الباحثون عن الله لا يحصون عدداً، ولا يزال الواقفون بباب الكريم عشرات آلاف الآلاف، يرجون رحمته ويخشون عذابه.
إحياء علوم الدين
هذا التعبير العبقري الذي أطلقه أبو حامد الغزالي (505هـ)، ثم حوَّله من فكرة إلى برنامج سلوكي، فالصراع العبثي بين أصحاب الاتجاهات في قاعات الدرس والبحث، الذي خرج بعضه للحياة أدخل الأمة في متاهات التناظر الذي لا يفيد.
حاول الغزالي أن يوجه الأمة إلى أن تدور في فلك الرسالة، ويبعد بها عن جدليات التنظير الجدلي في مسائل العلوم، التي تفيد العقل وتقسي القلب، وأراد أن يجمع بين التنظير للعبادة، وسلوك العبادة، فقد انشغل علم الكلام بركام من النقول والأقيسة والمصطلحات، يقول الشيخ محمد الغزالي: «أصبحت تقرأ في أمهات الكتب الكلامية، وتطوي الصفحات الطوال فلا تكاد تعثر على آية أو حديث إلا اقتباسات يسيرة، تبدو كالزهرات المنفردة في الأرض السبخة»(1).
وعلى مستوى حملة العلم، نجد أن نزاعاً نشب بين الصوفية والفقهاء، يقول فيه د. محمود قاسم: كان الأحرى أن يمتزج الفقه بالتصوف، وأن يصبح الفقهاء صوفية، والصوفية فقهاء(2)، لكن الذي حدث كان صراعاً على المكانة، لا صراعاً ومسابقة على تعبيد الناس لله تعالى.
واجبات مؤسسية وفردية
إن تحويل مسارات الأمم يحتاج لعقود، وربما لقرون، فكما يصعب تحويل الأمم بين يوم وليلة إلى منازل السوء، فعلى الجهة الأخرى يصعب إعادتها إلى المسار الصحيح لو انحرفت عن الطريق القويم.
وخطوات الإعادة تشتمل على جوانب عديدة، تقوم بها مؤسسات متنوعة، الدينية والاقتصادية والتعليمية.. وغيرها، كما أن جهود الأفراد ومبادراتهم لتحصين المجتمع ابتداء، أو لإعادته إلى السداد واجب، وهذا الواجب واجب عيني، فإن النصيحة حق كل مسلم على أخيه، والأمر بالمعروف له درجات لا تفوت مهما كان العجز، فله درجة يجب عليه أن تكون.
خطوات على طريق الإعادة المنشودة
من أهم الركائز التي يمكن من خلالها إعادة المجتمع إلى الطريق الصحيح:
أولاً: إعادة الاعتبار لأركان الإيمان الستة؛ أركان الإيمان الستة حدثت لها خلخلة في المجتمع لا توصف، وأولها الإيمان بالله تعالى، ينبغي بعثها ليكون الله تعالى ومرضاته أكبر في نفس صاحبها من كل شيء، بتعظيم شعائره، ومراقبته تعالى في السر والعلن، وهذه خلاصة تعليم العقيدة، إذ هي تسعى لتعظيم الله تعالى في نفوس المؤمنين، ونبذ الهوى.
ثم بقية الأركان الأخرى؛ الإيمان بالملائكة، فهم النموذج الأكمل للمخلوقات الصافية، تتمنى بكل تجرد الخير للخلق، ولا تنافسهم في مكانة أو منزلة، ولا تحسدهم عليها، وبهم من القوة الخارقة ما لا يؤدي بهم للتجبر والتكبر، ولهم من القرب والمنزلة من الله ما لا يجعلهم يغترون، أليسوا هم المبتهلين إلى الله: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (غافر: 7)، فهذا التجرد مما يجب تمثله واحتذاؤه، وانتهاج الأخلاق الملائكية في العيش والتعامل ما أمكن، والتمكين لها بين الناس قولاً وسلوكاً.
وهكذا الإيمان بالكتب، فهي وحدها الهادية لطريق الله تعالى، وهي الحصون المنيعة في وجه من يزيفون الفكر، ويقبحون الحق، ويزينون الباطل.
وعلى ذات المسار الإيمان بالرسل، فطريقهم هي السبيل الوحيد في الوصول إلى الله تعالى، ومع اليقين بالدار الآخرة واعتبارها حِلًّا وارتحالاً بدءاً وانتهاء في الفعل والترك.
ثم الإيمان بالقضاء والقدر خيره، وشره، تكون محصلته هي الالتزام بالتفكير العلمي، وهذا الركن يستهدف إنضاج الوعي عند الإنسان بأهمية التفكير بأن كل شيء خلقه الله بقدر -أي بقانون- وأن السلوك الخيِّر والسياسات الخيرة، بناء على هذه الأقدار، يثمران اجتماعاً إنسانياً راقياً وحضارة متقدمة، وأن السلوك الشرير والسياسات الشريرة ثمرتها الانحطاط الاجتماعي، والتخلف الحضاري(3)، ونتائج الصدام مع أقدار الله تعالى محصلتها الضنك وخسران المصير.
ثانياً: إحياء التعليم كرسالة تربوية، ومشروع حضاري، فهو يُعدّ إحدى أهم الركائز لضمان العودة للاستقامة، فالتعليم أداة تشكيل العقول، ومن خلالها يمكن بناء الوعي، فالأمم الجاهلة تصبح عرضة للاختراق الثقافي والاقتصادي، فتتحول من قوى فاعلة منتجة إلى كيانات مستهلكة هشة.
والجاهل لا يدرك قيمة الأشياء، ولذا يكون في المجتمع كالسائمة، ترعى حيثما اتفق، وتكون معاناة المجتمع من كلفة ما يَنتج عن أفعاله أضعاف ما يُنفق على تعليمه.
وعلى المجتمع ككل أن يخلق بيئة داعمة ومحفزة للعلم والإبداع، تغرس في النفوس حب التعلم والشغف بالمعرفة، فالأمم التي تدرك قيمة التعليم كرسالة حضارية ستظل دائمًا عصية على التراجع أو الانكسار.
ثالثاً: إعادة الاعتبار للأخلاق بأركانها الأربعة؛ الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.
فالصبر: يحمل صاحبه على الاحتمال وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة والرفق، وعدم الطيش والعجلة.
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح، وتحمله على الحياء، وتمنعه من الفحشاء، والبخل والكذب، والغيبة والنميمة.
الشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى.
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط(4).
وهكذا تكون الأخلاق قلعة تصون من السقوط، وعوناً على الانبعاث والنهوض.
______________________
(1) عقيدة المسلم، ص12.
(2) الفلسفة الإسلامية، د. حامد طاهر، ص91.
(3) أهداف التربية الإسلامية، ص230.
(4) مدارج السالكين (2/ 294).