لم يكن اختيار «يثرب» (المدينة المنورة) مهجرًا للنبي صلى الله عليه ووسلم والمسلمين اجتهادًا من الرسول الكريم صلوات الله عليه، بل كان اختيارًا ربانيًا محضًا، فعلى مدار سنوات عدة لم يتجه بصر النبي صلى الله عليه وسلم وفكره إلى أهل يثرب، أو لم يقدر له أن يلتقي بهم فيعرض عليهم دعوته، بل كان ظنه يتجه إلى أطراف الجزيرة بعيدًا عن سطوة قريش، كما قال يومًا لأصحابه: «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلي (أي ظني) إلى أنها اليمامة أو هَجَر، فإذا هي المدينة؛ يثرب» (رواه البخاري).
لم يؤسس المسلمون، إذن، مدينتهم الأولى، فقد كانت يثرب أوغل في القدم من الهجرة الإسلامية إليها، لكنها كانت أوفق ما يكون لقيام الدولة الوليدة، فكانت تمتاز بحصانة طبيعية تؤهلها للصمود في معترك الجهاد القادم، فتحوطها حرتان واسعتان من صخور ناتئة عصيّة، لا تستطيع الجيوش الخوض فيها، وتشتبك في جنوبها مزارع النخيل وحصون اليهود والعرب، ولا يبقى مستوجبًا الحذر إلا شمالها حيث جبل «أُحد».
وكانت من حيث التركيب السكاني متصدعة بين قبيلتين عربيتين متصارعتين؛ الأوس والخزرج، وقبائل يهودية تقدم الدعم للعرب المتحاربين، وتؤرش بينهم، وتثير مخاوفهم بأن نبيًا أظل زمانه سوف يتبعه اليهود فيقتلون به العرب قتل عاد وإرم! فكان ذكر النبي القادم؛ مما يهيئ أذهان أهل يثرب لتقبل الرسالة القادمة، ويحفزهم للمسارعة إليها، فما أشد حاجتهم إلى نبي يجمع بين قلوبهم، لتنتهي سنوات من الصراع المحموم بينهم، ولرسالة تطلق طاقاتهم بعيدًا عن الاحتراب الداخلي، ليكون لهم دور تاريخي مأمول، ووحدة تقيهم خطر ثعالب اليهود.
وكان موقع المدينة أنسب ما يكون لمقارعة قريش، إذ تقع في طريق تجارتهم إلى الشام، فيمكنها حصارهم اقتصاديًا، والتجارة مصدر دخلهم، وسر ثرائهم، كما كان أهلها أهل حروب ونجدة، أورثهم إياها تقاتلهم الطويل، مع ما امتازت به المدينة من اكتفاء ذاتي من الزرع والغذاء، اكتفاء يقي خطر الحصار المتوقع من المشركين.
كما كان سكان يثرب في معظمهم من الشباب الفتي، فقد ذهبت سنوات الاقتتال بين قبائلهم بكثير من شيوخهم، وأفنت قياداتهم التاريخية التي ربما لو انفسح بها الأجل؛ واستقبلت الإسلام؛ كانت حجر عثرة في سبيله، وليس ذلك مستبعدًا إذا استقرأنا سير من بقي منهم وعادى الدين الجديد، مثل عبدالله بن أبي، وأبي عامر الراهب.
وفور هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها صبغ المدينة صبغة جديدة تناسب جدَّة الدين، وترسخ قيمه، وتؤهلها لقيادة الدولة الناشئة، وحماية عقيدتها، وبسط هدايتها، فكان أول بناء بها المسجد، حيث مقر العبادة والقيادة، وحوله حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، حيث القدوة والتأسي، وبالقرب من المسجد جعل المصلى الفسيح لصلاة العيدين، ثم تتوزع شوارع المدينة وأزقتها الجانبية؛ منطلقة من القلب حيث المسجد الجامع، تبدأ منه، وتصب فيه، لترتبط مناشط الحياة بموضع القربى والصلاة.
وامتازت شوارع المدينة بمراعاة وظيفتها، فكان اتساعها بقدر حاجة أهلها إلى المرور والارتفاق وحركة دوابهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع» (مصنف عبدالرزاق ومسند أحمد)، ويدل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلفتم»، على أن الأصل أن يكون اتساع الطرق بحسب الحاجة، إلا عند الاختلاف، واتسمت الشوارع الفرعية والجانبية بالضيق والالتواء بالنسبة للطرق العـامـة الرئيسة، وقد كان تلاصق المباني وضيق الشوارع طابع التخطيط المعماري للمدن آنذاك، حيث يحقق فوائد عملية تتصل بتيسير الدفاع عن المدينة إن استهدفها عدو، والحماية من الغبار والرمال في بيئة صحراوية، وتكثيف الظلال في بيئة حارة مشمسة، إضافة إلى الرغبة في مزيد من التواصل الاجتماعي في مجتمع قبلي مترابط.
وغربي المسجد بنى النبي صلى الله عليه وسلم السوق، مؤسسة لتحقيق الاقتصاد على أسس الإسلام، وكان موقعه فريدًا، فالمسجد محور حياة المسلمين، ومركز نشاط المقيمين بالمدينة والوافدين، وهو قلب المدينة المعماري، تتفرع منه طرقها وشوارعها، فيسهل الوصول إليه، كما أتاح له هذا الموقع الاتصال السهل بطرق التجارة إلى بلاد الشام، واليمن ومكة، وديار القبائل العربية القريبة؛ من غير احتياج إلى الالتفاف حول الدور، أو التخلل بينها.
وشرقي المسجد كانت مقبرة البقيع؛ بقيع الغرقد، وقد اختارت كل قبيلة ناحية منه، جعلت فيها مقابرها، وبالمدينة خصصت دور للضيافة، ينزل بها الوفود والضيفان، وعلى مسافة عشرين فرسخًا من المدينة حمى النبي صلى الله عليه وسلم النقيع لرعي خيل المسلمين، ثم حمى الربذة لإبل الصدقة.
وهكذا برزت مجموعة من العوامل جرى الحفاظ عليها في تخطيط المدينة النبوية، أبرزها العامل الديني، حيث ستظل المدينة نحو ثلاثة عقود ونصف عقد عاصمة الإسلام، ومقصد الهجرة، ومركز الدعوة والتربية والتوريث الديني والقيمي، وكان المسجد يقوم بأدواره المتعددة من صلاة، وتعليم، وقضاء، وإفتاء، وقيادة روحية وسياسية، وصهر اجتماعي، وتم ربط جميع الوحدات العمرانية به، من خلال الطرق الرئيسة التي تنطلق منه، وتصب فيه.
كما حققت المدينة مطالب الحماية العسكرية، من خلال تحصيناتها الطبيعية من حرتيها الشرقية والغربية، وأطمها وحصونها وبساتينها الملتفة من الجنوب، ومن خلال توافر إنتاجها الغذائي وآبار مياهها التي ضمنت لها الصمود؛ إن كان هناك حصار وخطر، مع ما اشتهر به أهلها من الدربة والخبرة العسكرية المتراكمة، وكانت كل قبيلة تسكن في خطة خاصة بها، مما يحقق الألفة الاجتماعية، وسرعة الاستجابة للتكليفات السياسية، والضرورات العسكرية، ولم يتسبب القادمون إليها من المهاجرين في خلخلة تلك اللحمة القبلية، فقد نزلوا في مساكن الأنصار، بعدما تقررت الأخوة بين المهاجرين والأنصار في أعقاب الهجرة، أو سكنوا في أراضٍ لم تكن مشغولة بالبناء تبرع بها أهل المدينة.
كما توافرت قريبًا من المدينة مواضع الرعي والاحتطاب؛ ما مكن النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيص أماكن للحمى، لإبل الصدقة وخيل الجهاد، وكانت المدينة أرضًا وخيمة، اشتهرت بالوباء قبل الهجرة، فلما هاجر إليها المسلمون أصابت الحمى عددًا منهم؛ ما جعل النبي صلوات الله عليه يدعو الله أن يصرف عنها وباءها وحمَّاها، فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصحِّحْها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجُحْفة» (رواه البخاري).
لقد كان تخطيط المدينة النبوية مصدر إلهام عند إقامة المدن الإسلامية في المرحلة التالية، في البصرة والكوفة والفسطاط، ثم القيروان، فروعي بناء المسجد أولاً، في القلب، ومنه تتفرع الشوارع الرئيسة، وأضيفت إلى ما سبق شروط جرت مراعاتها نتيجة تطور أحوال الدولة، وتعدد أسباب البناء، فقد بنيت البصرة والكوفة ابتداءً لتكونا معسكرين للجيوش الفاتحة في العراق وفارس، فأمر عمر رضي الله عنه بأن يختار المسلمون لهما موضعاً على حافة صحراء العرب في التقائها بخصب أرض العراق، لتكون مناسبة للأجواء الصحية التي نشأ فيها العرب، حيث جفاف البيئة وتحرك الهواء، ولم يكن يفصلهما عن صحراء العرب نهر، حتى يستطيع الخليفة الحركة إليهما إن شاء دون عائق، وهو نفسه ما أمر به عمرو بن العاص حين أنشأ الفسطاط، واختار لها موضعًا لا يفصله نهر النيل عن جزيرة العرب.
وكان اختيار الفسطاط عاصمةً بديلة عن الإسكندرية، ليضمن أمن عاصمة البلاد، وحمايتها من الغزو البحري الرومي الذي يهدد السواحل الإسلامية، حيث لم يكن للمسلمين آنذاك أسطول بحري.