هذا عائق من العوائق التي لا يكاد يسلم من الإصابة به إلا كل حصيف على علاقة متينة بربه سبحانه وتعالى، التسرع في إصدار الأحكام قبل التحقق والتيقن من حقيقتها ومدى صدقها.
والتحقق والتيقن عند أهل اللغة يعني طلب الدليل الموصل إلى الثبات على الأمر، والتأكد من حقيقة هذا الدليل للوصول إلى هذا الثبات، ويعني كذلك التأني والتريث وعدم الاستعجال في اتخاذ المواقف.
وعدم التحقق والتيقن عند علماء التربية يعني السرعة أو عدم التأني والتريث في كل ما يمس المسلمين، وغير المسلمين من أحكام ومن تناقل وتداول لهذه الأحكام دون فهم دقيق للواقع وما يحيط به من ظروف وملابسات.
وإلى هذا أشار القرآن الكريم في حديثه عن حادثة الإفك حين قال: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).
ومن المعلوم بداهة أن التلقي إنما يكون بالأذن ثم يعرض على العقل والقلب وحينئذ يكون الكلام باللسان؛ ولكنها لفتة إلى السرعة وعدم التأني والتروي في نقل الأخبار، بل في تداولها والتحرك بها كأن الإفك عندما وقع من ابن سلول صُمت الآذان وسُترت العقول وغُلفت القلوب فلم يبق إلا أن لاكته الألسن وتحركت به الشفاه دون فهم للواقع ودون معرفة بالظروف والملابسات.
وهي صورة فيها الخفّة والاستهتار، وقلّة الحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمـام، (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا تروّ، ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبّره القلـوب؛ (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) بأفواهكم لا بوعيكم، ولا بعقلكم، ولا بقلبكم، إنّما هي كلمات تقذف بها الأفواه قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول(1).
مظاهر عدم التحقق والتيقن
ولعدم التحقق والتبين مظاهر تدل على أن المسلم قد أصيب بهذا العائق منها:
– معاداة المؤسسات العاملة للإسلام استجابة لحملات التشويه دون التحقق من هذه الحملات وتيقن صدقها.
– اعتماد الهدي الظاهر في الحكم على الأفراد والجماعات، مع الإهمال التام للجوهر، الأمر الذي يؤدي إلى خلل كبير في هذا الحكم.
– عدم التماس الأعذار للغير، والمسارعة إلى نقل الأحكام والتصورات والآراء بمجرد سماعها أو رؤيتها.
العواقب
ولهذا العائق عواقب خطيرة على مستوى الأفراد والعمل الإسلامي:
فعلى مستوى الأفراد:
– اتهام الآخرين بتهم هم برآء منها مما يوقعه في الإثم، ولعل هذا هو بعض سر حديث رسول الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» (رواه مسلم).
– سفك الدماء وسلب الأموال، وهذا ما حدث من أسامة بن زيد رضي الله عنه حيث قال: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله قال: فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي فقتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟»، قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً، قال: «أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟»، قال: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت لو أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم(2).
– فقدان الناس الثقة به والنفور منه، واتهامه بالكذب، وهذه نتيجة طبيعية لتعجله وسرعته في نقل كل ما يسمع دون تحقق وتبين.
أما على مستوى العمل الإسلامي، فيؤدي هذا العائق إلى:
– اضطراب الصف، فلا يخفى على أحد خطورة الإشاعات في تخلخل الصف الدعوي، وهذا ما صورة سيد قطب بقوله: «كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة قد تحدث إشاعة الخوف فيه خلخلة وارتباكاً، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف وقد تكون كذلك القاضية»(3).
– تصدر الأدعياء والدخلاء، وخسارة الأنصار والمؤيدين، والتحرك من الخيال لا من الواقع؛ وذلك أن الحركة ناتجة عن أخبار لم يُتحقق من صدقها.
– فقدان التأييد الإلهي، ولعل هذا هو سر التوجيه القرآني (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء: 83)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).
الأسباب
للوقوع في عدم التحقق والتيقن أسباب كثيرة، نذكر منها:
– البيئة والنشأة: فقد ينشأ المرء بين والدين تعودا على عدم التحقق، وعندئذ يصاب بما أصيب به والداه، وقديماً قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه(4)
– الصحبة غير المنضبطة بأخلاق الإسلام: وهذه نتيجة طبيعة للصحبة السيئة التي تعودت على مخالفة الإسلام وتعاليمه، ولهذا دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسن اختيار الصاحب فقال: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)).
– الانخداع بحسن البيان وبريق الألفاظ: وهذا ما حذَّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» (راواه البخاري، 7169).
– عدم معرفة طرق التحقق والتيقن: وهذا ما ينبغي أن يُربى الأفراد على معرفته ودراسته والتدرب فعليه، حتى لا يقعوا فريسة للإشاعات والأقوال المغرضة.
– جهل العواقب المترتبة على عدم التحقق والتيقن: فمن الطبيعي أن يؤدي الجهل بالعواقب المترتبة على عدم الالتزام بالتحقق والتبين إلى السرعة، وعدم التريث والتأني في نقل الأخبار والتصورات والآراء.
العلاج
من أراد ألا يُصاب بهذا العائق فعليه أن يسلك السبل التالية:
1- تقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلن، فإن ذلك يكون سبباً في إنارة القلب، ونفاذ البصيرة، ولعل هذا هو سر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال: 29).
2- معايشة القرآن والسُّنة، من خلال هذه النصوص المتصلة بخلق التحقق والتيقن، كقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء: 83).
3- دوام النظر في أحداث التاريخ الإسلامي، فبه الكثير من النماذج الحية التي تجسد هذا الخلق، وحسبنا من هذه النماذج قصة الوزير أبي القاسم بن مسلمة، أحد وزراء بني العباس مع يهود خيبر في القرن الخامس الهجري، إذ رفع إليه هؤلاء اليهود كتاباً زاعمين أنه كتاب نبوي فيه إسقاط الجزية عنهم فلم يبادر بالفصل في المسألة دون تحقق، وإنما رد الأمر إلى أهله، لقد دفع الكتاب إلى الحافظ الخطيب البغدادي شيخ علماء بغداد ومؤرخها ومحدثها في عصره فنظر فيه ثم قال: هذا كذب فسأله الوزير: وما الدليل على كذبه؟ فقال لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر وقد كانت خيبر في سنة سبع من الهجرة، وإنما أسلم معاوية يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس فأعجب الناس ذلك وتوقف الوزير عن العمل بالكتاب.
4- تقدير العواقب المترتبة على ترك التحقق والتيقن في الدنيا والآخرة، فإن هذا من شأنه أن يبعث الإنسان من داخله ويحمله على التروي أو التأني أو التريث، حتى لا يكون سببًا في إيذاء الآخرين(5).
_____________________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، تفسير سورة «النور» الآية 15.
(2) صحيح البخاري، صحيح البخاري، باب «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً».
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، تفسير سورة «النساء»، الآية 83.
(4) من قصيدة «قد اختل الأنام بغير شك»، أبو العلاء المعري.
(5) آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح (1/ 293)، بتصرف.