كاتب المدونة: سلمان عارفي (*)
أنا حلم جريح متلطخ بالدماء محشو بالألم والكآبة، فقد ولدت وسط آفات الحرب وويلاتها، ونشأت بين آهات وصيحات وعويلات أشم رائحة الجروح التي لا تندمل، والدماء التي لا تجف، أتنفس في جو مختنق محفوف بدخان القنابل والنيران، أسمع أصواتاً قاتلة للانفجارات تتبعها صرخات مفزعة للنساء والأطفال، أشاهد عن كثب أفظع مناظر القتل والدمار من جثث مدماة وأشلاء متحللة تحت أنقاض متراكمة.
نعم أنا حلم، ولكن أحاديثي ليست حالمة، فلست أنا حلمَ نائم مغمى عليه، بل أنا حلم متيقظ يتدفق في قلب نابض بالحيوية؛ ألا وهو قلب الطفل الفلسطيني ذلك الطفل الذي تراه بمظهره بائساً شقياً مخذولاً الذي لا يُعرف اسمه وهو لا يريد أن يكشفه؛ لأن العالم قد تعود على تجاهل هويته ومعاناته منذ أكثر من سبعين عاماً، فأنا أطل من ذلك القلب الجريء الباسل حائراً مهموماً على هذه الإبادة الوحشية للأبرياء فكم من أحلام ناعمة داسها شياطين الإنس بأرجلهم في ظلام هذه الأنقاض ودفنوا معها الأمنيات الحانية التي فتحت عيونها في أمل صبح مشرق وحياة سعيدة يا للأسى الذي لا يفوقه أسى لم يطل عمر هذه الأحلام ولم تتجاوز سوى بضعة أيام أو أشهر أو سنين وهي -في هذا العمر القصير- لم تجد الحياة إلا بأبشع صورها وماتت من دون أن تكبر وتفهم معنى الوجود أو تعانق روعة الحياة.
واأسفاه! لم أعد لهذا الطفل البائس حلماً سعيداً منعّماً، فقد أتيت إليه دائما بشكل مفزع يملأ دنياه الصغيرة بآلاف من الخوف والألم حتى هو أصبح يخاف من الأحلام وهو لا يحلم إلا حياة تبشر بالأمن والسعادة وتنعم بالصحة والعافية يحلم أنه عندما يستيقظ صباحاً يرحبه هواء صاف نقي تطيب له أنفاسه بدلاً من أن يخنقه جو مكفهر بسموم القنابل يحلم أن يسمع تغاريد البلابل والطيور بدلاً من أن تهزه أصوات مخيفة للصواريخ يحلم أن يرى حوله وجوهاً ضاحكة مستبشرة تغمرها البهجة والطمأنينة بدلاً من أن يرى وجوها يملأها الخوف واليأس والشقاء يحلم أن يتردد سعيداً في طريق المدرسة مودعاً أهله بالسلام لينشط في بناء مستقبله الزاهر يحلم أن يلعب في أحضان القدس، ويجري في فناءها الواسع، ويقفز بين أشجار الزيتون ويمرح على شواطئ البحر الأبيض برفقة الأصدقاء وهو حقاً يحلم حرية يقطع في ظلها الآمن مساحات الأرض وآفاق السماء ولكن هي أحلام ربما لا تتحقق وهو الآن لا يحلم إلا سقفاًً يستره وغذاء يسد رمقه هل هو يحلم ما لا يسع أن يحقق هذا العالم الرحب الفسيح؟
لا أكاد أدري ما الفرق بين العلم والجهل في هذا العالم المتمدن المثقف؟ حيث هما يصطفان في مستنقع واحد فالجهل بطبعه يركن إلى العنف والهمجية لسفاهته العمياء ولكن العلم كيف ضل طريقه إلى الغباوة؟ وهو مصدر الأمن والسلام، وموجب الحرية والسعادة! آه لقد أثبت الجهل بأنه أقوى من العلم رغم منجزاته وعطاءاته الهائلة التي تمتد على قرون هل غلب الأول؛ الآخر بجميع مساويه من الحقد والنفور والطمع والأنانية؟ أم عاد الجهل متوجاً بعبارات منمقة جديدة لتبرر «لجاهلية المثقفة»؟
ولا أكاد أفهم ما معنى دعم الحب والإنسانية وتعزيز الأمن والسلام وضمان الحرية والكرامة وغير ذلك من الشعارات الهائلة التي يدقدقها دعاة الأمن والسلام؟ هل هم يريدون بها الجهود المشكورة لتقديم المساعدات والخدمات الإنسانية المباركة للمنكوبين بعد نبذهم في جحيم الحرب والدمار؟ هل هم يريدون حقاً إحداث الأمن والسلام؟ فلماذا لا يمنعون من يسفك دماءنا ويدمر بيوتنا ويدوس أحلامنا؟ وكيف يمكن تحقيق الأمن والسلام بدون قمع الظلم والعدوان؟ وما المراد بــالأمم المتحدة؟ هل هي اتحاد بعض الشعوب التي تتساوى فيما بينها عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً؟ أم هي مؤسسة قامت للدفاع عن مصالح بعض الأرستقراطيين في العالم على حساب الأبرياء؟ ليست هذه الشعارات عندي إلا هتافات فارغة، وعنوانات كاذبة، لأنها تخلو من الحب الحقيقي للأمن والإنسانية.
صدّقني يجهل ذلك المسكين تماما أنه من بدأ الحرب أولاً ولماذا؟ وقلبه ينادي صارخاً في صوت مغرق بالحزن والأسى ما هي الجريمة التي يعاقب عليها طفولتي؟ كم تستقي هذه الحرب من دمائي حتى يروى غليلها؟ وكم هي تنهش من أحلامي حتى يثلج صدرها؟ ومتى تنفك أغلال البؤس والشقاء حتى يطلع عليَّ فجر الحرية والسعادة؟ لقد تعبت قدماي من الهرب والنزوح إنقاذاً لنفسي وأحلامي، وأعيش في خوف مستمر فالموت يطاردني من كل حدب وصوب، أشعر ببريق الحياة أحيانا في قطرات ماء أتشرّبها، وأحياناً في ظل جدار استظل به، وكل ذلك متاعي استمتع به.
ومع ذلك لا أشكو مولدي في هذه الأرض الجريحة فهي عزيزة علي ولو ضيقت لي حدودها فقد خصها الله برحمته الواسعة، وهي مهبط الأنبياء ومضجع الشهداء، أفديها نفسي وروحي، وسيبقى إيماني بحرمتها وقداستها للأبد، ولا أشكو -كذلك- ممن خذلني في هذا الحصار الضيق، فأولئك الذين يحق عليهم قول الله عز وجل: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179)، بل إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فهو نعم المولى ونعم النصير.
_________________
(*) كاتب هندي.