كانت السجون في بداية الحكم الإسلامي مجرد وسيلة بسيطة لتوقيع العقاب على من أجرم في حق المجتمع أو اقترف أي خطأ يضر بالناس، وذلك لتحقيق العدالة وردع تكرار الجرائم صغرت أم كبرت، وجاء الإسلام بالحدود، فلم يكن السجن إلا فترات قصيرة ومؤقتة لتنفيذ الحد أو التأديب والإصلاح أو العقوبة التعزيرية،
أما الانحراف عن تلك الغايات من إنشاء السجون، فقد حدث منذ بداية عهد الدولة الأموية (661 – 750م)، وظهور حكام يتميزون بالطغيان السياسي، فشهد نظام السجون تحولًا تدريجيًا من كونه أداة جنائية تهدف إلى معاقبة الجرائم وحماية المجتمع، إلى أداة سياسية تُستخدم لإسكات المعارضين وضمان استقرار السلطة الأموية.
هذا التحول جاء نتيجة عدة عوامل مرتبطة بطبيعة الحكم الأموي وطبيعة التحديات السياسية التي واجهتها الدولة.
عوامل انحراف السجون في دولة الخلافة الأموية
تغير شكل الحكم في الدولة الأموية عما كان قبله في عهد الخلفاء الراشدين، وحدثت حروب داخلية بين المسلمين، وصارت مقتلة عظيمة فقدت الأمة فيها خيرة الصحابة، وأثّر ذلك بشكل مباشر على تغيير شكل الحياة الاجتماعية والسياسية.
وتوسعت الدولة بشكل كبير بتوسع الفتوحات الإسلامية لتصير أكبر دولة على الأرض في ذلك الزمان من حيث المساحة وعدد البشر، وتغيرت كذلك صورة السلطة، فأضافت إلى الجرائم المعروفة جرائم أخرى تتعلق بالرأي ومعارضة الخليفة أو أمير المؤمنين، الذي اضطر لأن يحكم قبضته كي لا تنفلت أمور الدولة منه، وساهم في استخدام السجون ضد أصحاب الرأي والمذاهب المخالفة عدة أسباب، منها:
1- تركيز السلطة في يد الحاكم:
أسس الأمويون حكماً مركزياً قوياً معتمداً على الولاء الشخصي للخليفة، وأدى ذلك إلى استخدام السجون كأداة لإقصاء الخصوم السياسيين وضمان الاستقرار.
2- الفتن والصراعات السياسية:
شهدت الدولة الأموية العديد من الفتن والثورات، مثل ثورات الشيعة والخوارج؛ ما دفع السلطة إلى استخدام السجون لقمع المعارضين السياسيين ومنع انتشار الأفكار المناهضة، ومنها أفكار تعادي الدين نفسه.
3- القضاء على فكرة المعارضة داخل الدولة:
وقعت عدة أحداث كبرى اعتبرها الأمويون قلقاً بالغاً على الدولة، فقاموا باستخدام السجون للتنكيل بأصحابها باعتبارهم خطراً على وجود الدولة، ومنها واقعة «كربلاء»، وواقعة خروج عبدالله بن الزبير على الدولة واعتصامه بمكة ثم الاشتباك معه ومع أتباعه، ومن أشهر المساجين الذين تعرضوا للتنكيل على يد الحجاج بن يوسف الثقفي العالِم سعيد بن جبير، الذي قتله الحجاج من شدة التعذيب.
4- تعزيز السيطرة الإقليمية:
مثلت التوسعات الكبيرة (في فترات وجيزة) عبئاً أمنياً على رجال الدولة، وقد واجهوا صعوبة في السيطرة على الأقاليم النائية التي تقع على أطراف الدولة، فاستخدمت السجون لقمع كل من رفض الرضوخ لحكم الدولة أو أراد الخروج عليها.
أمثلة بارزة للسجون السياسية في الدولة الأموية(1)
لم تكن هناك سجون سياسية بالمعنى المعروف اليوم، وإنما هي سجون عامة لكل من يستحق السجن، ومع ذلك كانت هناك مجموعة من السجون معروفة بالتنكيل وشدة الظلم الذي يقع على نزلائها، ومن هذه السجون:
– سجن الكوفة والبصرة، وقد استخدمهما الحجاج بن يوسف الثقفي لقمع المعارضين، حيث كان معروفًا بالقسوة واستخدام التعذيب ضدهم.
– سجن دمشق، وكان يستخدم لإسكات المعارضين السياسيين والفكريين القادمين من مناطق مختلفة.
لقد تحولت فكرة الشرطة والأمن في العهد الأموي لحفظ النظام والعائلة الحاكمة والأمن والاستقرار الداخلي، وفي ذلك يقول د. علي الصلابي: شهد عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تطوراً كبيراً في نظام الشرطة من جهة نموها وترسخها كمؤسسة رسمية على مستوى الدولة وبصورة لم تُعرف من قبل، لقد أصبحت مؤسسة الشرطة مسؤولة مسؤولية كاملة ومباشرة عن توفير الأمن وإقرار النظام في جميع الأمصار الإسلامية، لقد أصبحت أهم قوة أمن يعتمد عليها معاوية وولاته لتحقيق الأمن الشخصي من جهة، وحفظ الأمن والنظام في الداخل من جهة أخرى.
يضاف إلى هذا كله أن أصبحت الشرطة المدافع الأول عن نظام الأمن الأموي وحمايته من اعتداءات الفرق الأخرى المعارضة له كالخوارج والشيعة وغيرهما؛ التي كانت تعمل على إسقاطه بشتى السبل(2).
فكانت وظيفة الشرطة في عهد معاوية(3) حماية الخليفة وولاة الأمصار ضد مناوئيهم في الداخل؛ فأول من استخدم الشرطة لحمايته الشخصية من الاغتيال الخليفة معاوية مؤسس الدولة الأموية، الذي خاض صراعاً (سياسياً وعسكرياً) عنيفاً مع معارضيه من الخوارج وغيرهم، وكان الشرطة يحرسون معاوية بشكل دائم في حله وترحاله، بل حتى وقت الصلاة، كان هناك حارس يقف عند رأسه وهو يصلي في المحراب.
طبيعة السجون في الدولة العباسية
وامتد الأمر من الدولة الأموية إلى الدولة العباسية (132-656هـ/750-1258م) التي استخدمت السجون كوسيلة لإسكات المعارضين، وكان من أشهر مساجين دولة العباسيين الإمام أحمد بن حنبل، فيما يسمى بـ«فتنة خلق القرآن» في عهد الخليفة المأمون، وأيضاً أبو العلاء المعري، رغم أنه لم يكن سجينًا بالمعنى التقليدي، فإن المعري اختار العزلة الطوعية في منزله، معبرًا عن احتجاجه على الأوضاع الاجتماعية والسياسية.
وقد تفاوتت ظروف السجون ومعاملة السجناء بناءً على مكانتهم الاجتماعية ونوع التهمة الموجهة إليهم في بعض الحالات، وتعرض السجناء للتعذيب وسوء المعاملة، خاصة إذا كانوا معارضين سياسيين أو دينيين.
أبرز السجون في عهد المماليك(4)
ومن مظاهر استخدام السجون في الأغراض السياسية في التاريخ الإسلامي، ما كان يتم في عهد الدولة الأموية، ومنها:
– سجن الجب: يقع في قلعة الجبل بالقاهرة، وكان يُستخدم لاحتجاز مرتكبي الجرائم الكبرى ومن يراد التنكيل بهم، بدأ استخدامه في عهد السلطان المنصور قلاوون عام 1282م، ثم هدمه السلطان الناصر محمد بن قلاوون عام 1328م، ونُقل المسجونون منه إلى سجن القلعة.
– سجن الإسكندرية: نظرًا لموقعه البعيد عن القاهرة وصعوبة الهروب منه، استُخدم لاحتجاز الشخصيات البارزة، مثل الأمراء والوزراء والعلماء، خاصةً من يُخشى تأثيرهم أو ولاؤهم المشكوك فيه.
ظروف السجون ومعاملة السجناء
تفاوتت ظروف السجون ومعاملة السجناء بناءً على مكانتهم الاجتماعية ونوع التهمة الموجهة إليهم:
– الطعام والشراب: كان السجناء يعتمدون غالبًا على أهاليهم أو صدقات أهل الخير لتأمين احتياجاتهم الغذائية، في بعض الحالات، كانت الدولة توزع الطعام على السجناء، خاصةً مما يُجمع من المصادرات.
– الملابس: غالبًا ما كان السجناء يحتفظون بالملابس التي اعتُقلوا بها، ولم يكن هناك توفير منتظم للملابس من قبل السلطات.
– التعذيب وسوء المعاملة: تعرض السجناء، خاصةً المعارضين السياسيين، لأشكال مختلفة من التعذيب، مثل الضرب والتسمير والعصر وتهشيم العظام والحرق والسلخ، متجاوزين بذلك كل الأعراف الأخلاقية والدينية والإنسانية.
وقد شهدت سجون مصر في العصر المملوكي حالات هروب للسجناء؛ ما أثر سلبًا على الحياة السياسية والاجتماعية نتيجة مداهمة هؤلاء الهاربين للمناطق المجاورة.
_________________
(1) سير أعلام النبلاء، بتصرف.
(2) من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، الشرطة في عهد معاوية للدكتور علي محمد الصلابي.
(3) المرجع السابق.
(4) الموسوعة العربية التاريخية الكبرى.