كي تتمكن أي جهة (حلف، دولة، حزب) من مواجهة عدوها الخارجي لا بد أولاً من المحافظة على قوة جبهتها الداخلية والحرص على متانتها، وفي سبيل تحقيق ذلك لا بد من تعزيز الوحدة الوطنية، ورفع الروح المعنوية، وإحباط محاولات العدو للتأثير النفسي على أفراد المجتمع الذي يحرص على نشر الإشاعات السلبية لخفض الروح المعنوية.
بيد أن هناك صنفين من الناس يعيشون بيننا يقدمون خدمات مجانية للعدو من حيث يعلمون أو من حيث لا يعلمون، إنهم المخذلون والمرجفون، فمن هؤلاء؟ وما الخطر الذي يشكلونه؟ وكيف نتعامل معهم؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا المقال، سائلين التوفيق والسداد من الله عز وجل.
أولاً: فقه التعامل مع المخذلين:
في البداية، لا بد من تعريف الخذلان، قال ابن فارس: الخاء والذال واللام أصل واحد يدل على ترك الشيء والقعود عنه، فالخِذلان: ترك المعونة، وقال الراغب: الخِذلان والخُذلان: ترك من يُظن به أن ينصر نصرته، ورجل خُذَلَة: كثيرا ما يخذل، وقال تعالى: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً) (الفرقان: 29)؛ قال البقاعي: شديد الخذلان: يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكره، لا ينصره.
عليه، فالتخذيل صنعة يتقنها الشيطان ويمارسها باستمرار، وأحسب أن المخذلين هم أتباع الشياطين.
وينتج عن الخذلان فقدان الثقة نتيجة غياب الموقف أو الفعل الذي كان منتظرًا من شخص معين، أو من جهة معينة.
إن التقصير في تحقيق التوقعات أو الوفاء بالوعود يؤدي إلى شعور الشخص المُنتَظِر بالخيانة أو الخيبة، ويمكن أن يحدث الخذلان في العلاقات الإنسانية عندما يتوقع الشخص دعماً أو وفاء أو مساندة من طرف آخر ولا يحصل على شيء من ذلك، هذا الشعور يرتبط عادةً بالألم النفسي؛ لأن الخذلان يأتي غالبًا من الأشخاص الذين نثق بهم أو نحبهم، والتغلب على الشعور بالخذلان يتطلب وقتاً وجهداً نفسياً لتجاوز الألم واستعادة التوازن.
كيفية التعامل مع المخذلين
ليكن الهدف الرئيس في التعامل مع المخذلين هو تحويلهم إلى مناصرين، وهذا ليس بالأمر الهين، ولكنه ليس مستحيلاً، وهذه بعض الخطوات التي قد تساعد في تحقيق ذلك:
1- فهم أسباب التخاذل: لا ينبغي أن نضع المخذلين في المنزلة ذاتها، فالذي يمارس التخذيل قاصداً متعمداً يختلف عن الذي يمارسه عن جهل أو ضعف، عليه يجب أن تختلف طريقة تعاملنا معهما.
فيجب الاستماع للمخذل لفهم دوافعه، إذ قد يكون السبب قلة الحافز، أو الخوف، أو سوء الفهم، أو ظروفاً خارجة عن إرادته، وهذا يتطلب إجراء حوار صريح مع هذا الصنف من خلال طرح أسئلة، مثل: ما الذي منعك من الوقوف معي؟ أو ما الذي تحتاجه لتكون داعمًا؟ والإجابة عن هذه الأسئلة يمكن أن يكشف الكثير.
وبعدما نقف على أسباب الخذلان، نحاول إعادة بناء الثقة مع الصنف الذي لا يتعمد الخذلان.
2- إعادة بناء الثقة: إذا كان التخاذل ناتجًا عن سوء تفاهم، فلنعمل على تصحيحه وتعزيز الشفافية في العلاقة، وأظهر للشخص أنك تقدّر دعمه وتثق بقدرته على المساعدة مستقبلاً.
3- تحديد توقعات واضحة: كن واضحاً بشأن ما تتوقعه منه، وكيف يمكنه تقديم الدعم بشكل عملي، واعلم أن الشخص يتخاذل أحياناً لأنه لا يفهم دوره بشكل كاف.
4- التحفيز الإيجابي: استخدم التشجيع والثناء عند قيامه بأفعال تدعمك، وركز على الإيجابيات بدلاً من الانتقاد بشكل مباشر.
5- إشراكه في القرار: أعطِه دورًا في صنع القرارات أو المسؤوليات المتعلقة بالهدف المشترك، فإن هذا يمنحه شعورًا بالأهمية والانتماء.
6- تعزيز المسؤولية المشتركة: اشرح كيف أن نجاحه أو فشله في دعمه لك يؤثر على الصورة الكبيرة لنا كأمة إسلامية واحدة؛ ما يجعله يشعر بوزن قراراته.
7- التعامل بحزم عند الضرورة: إذا استمر في التخاذل بعد كل الجهود، قد نحتاج إلى محادثة صريحة تشرح فيها تأثير سلوكه على المجتمع وعلى قضايا المسلمين، نوضح فيها عواقب خذلانه بطريقة تحفّزه للتغيير بدلًا من أن يشعر بالإدانة.
8- كن قدوة في الدعم: أظهر له كيف يمكن للدعم أن يكون قويًا ومؤثرًا من خلال مواقفك أنت، عندما تكون مناصرًا فإنك بأعمالك تلهم الآخرين ليحذوا حذوك.
وتذكر أن التغيير يتطلب وقتًا وصبرًا، فليس الجميع مستعدًا ليصبح مناصرًا فورًا، لكن بالتواصل المستمر والتحفيز الدائم، يمكن تحقيق تحوّل كبير ينعكس على من يستحق النصرة والدعم ثباتاً وعزيمة.
كيفية التعامل مع من وقع عليه الخذلان
1- تشجيعهم على التعبير عن مشاعرهم: سواء مشاعر الحزن أو الغضب، على أن تكون بطرق صحية مثل الكتابة، والحديث مع صديق موثوق، واستثمار وسائل التواصل لبث هذه المشاعر والحرص على نشرها، ويجب علينا تقبل طرقهم في التعبير وإن جنحت أحياناً لشيء من الغلو، ذلك أن مشاعر المصاب بالخذلان قد تخرجه عن اتزانه.
2- تقبل الأمر: تقبل أن الخذلان جزء من التجربة الإنسانية، ويمكن أن يحدث للجميع، لذلك جاء في الحديث عن صفات الطائفة المنصورة أنه: «لا يضرهم من خذلهم»؛ أي أن التخذيل سيحصل حتماً من بعض الناس.
3- إعادة تقييم التوقعات: على من وقع عليه الخذلان أن يراجع توقعاته من الآخرين، ففي بعض الأحيان، يكون سبب الخذلان توقعاتنا المرتفعة التي قد تكون غير واقعية، وينبغي عليه أن يتعلم من تجربة الخذلان، فإن ذلك سيساعده في اختيار الجهات الأكثر أمانًا للثقة بهم في المستقبل.
4- التسامح والتخلي عن الغضب: التسامح لا يعني بالضرورة نسيان الموقف أو العودة إلى الشخص الذي خذلك، بل يعني التحرر من الغضب الذي يمكن أن يثقل كاهل من وقع عليه الخذلان، وعليه يجب ألا يمنعه الخذلان من الثقة بالآخرين.
ثانياً: كيفية التعامل مع المرجفين:
الإرجاف في اللغة: قال ابن فارس: الراء والجيم والفاء أصل يدل على اضطراب، يقال: رجفت الأرض والقلب، والبحر رجاف لاضطرابه، وأرجف الناسُ في الشيء إذا خاضوا فيه واضطربوا، وقال الراغب: الرجف: الاضطراب الشديد، والإرجاف: إيقاع الرجفة إما بالفعل وإما بالقول، قال تعالى: (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) (الأحزاب: 60).
عليه، فإن المرجفين يسعون إلى خلخلة المجتمع واضطرابه عبر نشر الخوف أو القلق بين الناس من خلال الكذب، أو التضليل، أو التهويل، وغالبًا بهدف زعزعة الاستقرار أو إثارة الفتنة، ويُستخدم مصطلح الإرجاف لوصف بث الأخبار الكاذبة أو المبالغ فيها لإثارة الاضطراب النفسي أو المجتمعي.
في القرآن الكريم: وردت كلمة الإرجاف في قوله تعالى: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً {60} مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (الأحزاب)، قال البقاعي: المنافقون: أي الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، والذين في قلوبهم مرض أي مقرب من النفاق حامل على المعاصي، والمرجفون في المدينة: هم الذين يشيعون الأخبار المخيفة لأهل الإسلام التي تضطرب لها القلوب سواء كانوا من القسمين الأولين أم لا.
صفات المرجفين
للتعرف على المرجفين لا بد أن نتعرف على صفاتهم، ويمكن إجمالها في 3 صفات، هي:
1- نشر الأخبار دون التحقق من صحتها.
2- استغلال الأزمات أو الأحداث لإثارة الخوف والفتنة.
3- العمل لمصالح شخصية أو جماعية تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار.
كيفية التعامل مع الإرجاف
1- التحقق من مصادر الأخبار وعدم تصديقها أو إعادة نشرها قبل التأكد من صحتها.
2- نشر الوعي وتثقيف الناس حول خطر الشائعات والإرجاف.
3- الحزم ومحاسبة من يروج الشائعات للإرجاف بهدف الإضرار بالمجتمع، ونبذه والتحذير من خطره.
العلاقة بين التخذيل والإرجاف
هناك علاقة بين التخذيل والإرجاف، فكلاهما يؤدي إلى إضعاف الروح المعنوية وزعزعة الاستقرار، لكنهما يختلفان من حيث الأسلوب والهدف، لنوضح العلاقة:
أوجه التشابه بين التخذيل والإرجاف
كلاهما يُضعف الإرادة، فالتخذيل يثبط العزائم ويُقنع الناس بالتراجع، والإرجاف ينشر الخوف والشك؛ ما يؤدي إلى النتيجة نفسها وهي ضعف العمل أو الاستسلام.
كلاهما يستخدم الكلمة كسلاح، فالتخذيل يكون بتثبيط الهمم بعبارات، مثل: «لن تستطيع»، أو «لا فائدة»، والإرجاف يكون عبر تهويل الأمور أو نشر الشائعات، مثل: «الوضع خطير جدًا»، أو «العدو لا يُهزم».
كلاهما يضر بالمجتمع أو الجماعة، فالتخذيل قد يؤدي إلى فقدان الثقة والانسحاب، والإرجاف قد يثير الفتنة ويُضعف الترابط بين الأفراد.
الفرق بين التخذيل والإرجاف
التخذيل: يعني التثبيط المباشر للهمم والدعوة للتراجع أو التخلي عن الأهداف، ويتم غالبًا بأسلوب شخصي أو مباشر، مثل محاولة إقناع شخص أو مجموعة بعدم الاستمرار في عمل معين.
الإرجاف: يعني نشر الخوف والاضطراب من خلال الشائعات أو الأكاذيب، وهدفه زعزعة الاستقرار بشكل عام، ويكون عادة على نطاق أوسع (مجتمع كامل أو جماعة).
العلاقة بينهما
قد يكون التخذيل أداة للإرجاف، بمعنى أن المرجفين يستخدمون أسلوب التخذيل كجزء من خططهم لنشر الفتنة، على سبيل المثال: المرجفون ينشرون أخبارًا كاذبة عن قوة العدو (إرجاف)؛ ما يدفع بعض الأشخاص إلى تخذيل الآخرين عن المواجهة (تخذيل).
وفي الختام نقول: إن الإرجاف أعم وأخطر من التخذيل؛ لأنه يعتمد على إثارة الفوضى على نطاق واسع، بينما التخذيل يركز على التأثير المباشر على الأفراد أو المجموعات، وكلاهما يتطلب مواجهة حاسمة لنشر الأمل والوعي.
ونعوذ بالله تعالى أن نكون من المخذلين أو المرجفين.