في ظل حصارٍ خانق وعدوانٍ مستمر، تقف غزة شاهدةً على بطولاتٍ لا تعد ولا تحصى، وفي قلب المعاناة اليومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، يظهر الأطباء كخط دفاع أول، يجسدون الصمود الإنساني بأروع تجلياته، ورغم الاستهداف المباشر لهم وللمؤسسات الطبية التي يعملون فيها، يواصل هؤلاء الأبطال أداء رسالتهم النبيلة، متحدين كل الظروف لتقديم الرعاية الطبية، وإنقاذ الأرواح، وتضميد الجراح، حاملين راية الإنسانية في وجه آلة الحرب الصهيونية.
من بين هذه الرموز، تبرز ثلاثة أسماء أصبحت أيقونات للتضحية والعطاء، ونماذج حية لقصة صمود استثنائي، لم تمنعهم قسوة الاحتلال ولا الاستهداف المباشر من الوفاء بواجبهم الإنساني، بل استمروا في تقديم العون للمتضررين رغم كل التحديات.
أبو سلمية.. رمز «الشفاء» في غزة
في قلب مخيم الشاطئ المكتظ، وُلد محمد أبو سلمية في 18 أكتوبر 1973م، ليصبح فيما بعد أحد أبرز الأطباء الفلسطينيين في قطاع غزة، لم تكن طفولته سهلة وسط أجواء المخيم التي تفوح منها رائحة الكفاح والصمود، لكن حلمه كان واضحًا منذ البداية؛ أن يخفف آلام الأطفال في موطنه المحاصر.
شق طريقه نحو الطب عبر الدراسة في كييف، حيث تخصص في طب الأطفال، وبعد سنوات طويلة من الاجتهاد، حصل على البورد الفلسطيني في عام 2013م، ليعود إلى غزة ويبدأ رحلة جديدة في خدمة أبناء شعبه، ومع كل عدوان «إسرائيلي»، كان أبو سلمية يقف في الخطوط الأمامية، يدًا تمسح دمعة طفل، ويدًا أخرى تُنقذ حياة مصاب.
خلال الحروب التي مرت بها غزة –من حرب 2008-2009 إلى حرب 2023م– كان أبو سلمية طبيبًا وإنسانًا في آن واحد، عمل مديرًا لمجمع الشفاء الطبي، أكبر مستشفى في القطاع، حيث قاد فريقًا طبيًا تحت القصف المستمر وفي ظل نقص حاد في الموارد، أصر على البقاء في موقعه، حتى مع تهديدات الاحتلال التي لم تتوقف.
وفي عام 2019م، سعى لتطوير الخدمات الطبية بافتتاح عيادة لإدارة الألم بتمويل نرويجي، في محاولة لتخفيف معاناة المرضى الذين يعانون من آلام مزمنة.
وفي 23 نوفمبر 2023م، اجتاحت قوات الاحتلال مجمع الشفاء الطبي، واعتقلت أبو سلمية بتهمة واهية تتعلق باستخدام المستشفى لأغراض عسكرية، قُيدت يداه واقتيد إلى المعتقل حيث تعرض للتعذيب وسوء المعاملة، لكن حتى في تلك اللحظات العصيبة، بقيت عزيمته صلبة، مؤمنًا برسالته ومتمسكًا بحقه في الدفاع عن حياة أبناء شعبه.
خرج من المعتقل في 1 يوليو 2024م، بعد 8 أشهر من المعاناة، ليعود إلى عمله، أقوى وأكثر تصميمًا على مواصلة العطاء.
في العام ذاته، حصل أبو سلمية على جائزة «الطبيب العربي»، تقديرًا لإسهاماته المتميزة في الطب، وخاصة في الظروف الصعبة التي يعيشها قطاع غزة، لكن الاحتلال لم يتوقف عن استهدافه؛ إذ تعرض لحملات تحريض مكثفة من مسؤولين «إسرائيليين»؛ ما أثار مخاوف جديدة على سلامته.
البرش.. طبيب العظام الذي جبر كسر غزة
وسط أزقة غزة الضيقة، نشأ عدنان البرش، يحمل حلمًا بسيطًا في بيئة يثقلها الاحتلال والحصار، لكن هذا الحلم سرعان ما تحول إلى رسالة أكبر؛ أن يكون طبيبًا لا يداوي العظام فحسب، بل يجبر كسر شعب بأكمله.
بمسيرة مليئة بالإنجازات، انتقل البرش من أروقة الجامعات في رومانيا إلى غرف العمليات في قطاع غزة المحاصر، ليصبح واحدًا من أبرز جراحي العظام، وشاهدًا على جراح وطن بأكمله، وفي كل خطوة من حياته المهنية، كان يثبت أن مهنة الطب في فلسطين ليست مجرد عمل، بل مقاومة في حد ذاتها.
لم يقتصر دور البرش على الجراحة فقط؛ بل كان رمزًا للصحة في الرياضة الفلسطينية، حيث شغل منصب رئيس الدائرة الطبية في الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، بالإضافة إلى كونه رئيس قسم العظام في مجمع الشفاء الطبي.
في غرف العمليات، عالج الكسور الناتجة عن القصف والجراح التي خلفتها الحروب، أما في الملاعب، فقد كان يسهر على صحة اللاعبين الفلسطينيين، وكأنه يُصلح العظام المكسورة لأمة بأكملها.
لم يكن البرش طبيبًا عاديًا؛ فقد حصل على البورد الأردني والفلسطيني في جراحة العظام، والزمالة البريطانية في جراحة الكسور المعقدة من لندن، كل ذلك جعله بارعًا في التعامل مع أكثر الحالات تعقيدًا، خاصة تلك التي كانت تملأ المستشفيات بعد كل عدوان صهيوني.
في 19 ديسمبر 2023م، بينما كان البرش يؤدي واجبه الإنساني في مستشفى العودة وسط عدوان صهيوني متواصل، اقتحمت قوات الاحتلال المكان واعتقلته، قُيدت يداه اللتان اعتادتا على ترميم العظام، وأُخذ إلى سجن عوفر في الضفة الغربية المحتلة.
داخل الزنازين، تعرض البرش لأبشع أنواع التعذيب، صمد أمام الألم كما صمد أمام القصف سابقًا، لكنه كان يدرك أن الاحتلال يسعى لكسر الروح التي لا تنحني.
في 19 أبريل 2024م، انطفأت شمعة البرش داخل السجن، وأُعلن عن استشهاده تحت وطأة التعذيب الوحشي، حيث كشفت التقارير عن آثار اعتداءات جسدية ونفسية، بما في ذلك اعتداءات جنسية، وحتى اللحظة، لا تزال سلطات الاحتلال تحتجز جثمانه، وكأنها تخشى من أن يتحول إلى رمز جديد للمقاومة.
لم يكن استشهاد البرش نهاية القصة، بل بداية فصل جديد في ملحمة الشعب الفلسطيني، بقي اسمه محفورًا في ذاكرة غزة، ليس فقط كطبيب، بل كإنسان آمن بأن دوره يتجاوز المشرط والغرفة المعقمة، هو رمز للطبيب الذي جعل من مهنته رسالة، ومن حياته وقودًا لنضال شعبه.
أبو صفية.. وحيداً أمام الدبابات
في أزقة مخيم جباليا، حيث تختلط حكايات النكبة بواقع اللجوء القاسي، وُلد د. حسام أبو صفية لعائلة فلسطينية هُجّرت من بلدة حمامة عام 1948م، نشأ وهو يحمل في ذاكرته إرث المعاناة، ووسط مشاهد الحياة الصعبة، تبلور حلمه بأن يكون يدًا تخفف الألم وقلبًا ينبض بالأمل للأطفال الذين سلبتهم الحروب براءتهم.
كبر أبو صفية ليصبح طبيبًا بارزًا، جعل من ردائه الأبيض درعًا في وجه القصف والحصار، ومن مستشفى كمال عدوان منارة للصمود الإنساني في زمن العدوان.
تولى أبو صفية إدارة مستشفى كمال عدوان، حيث قاد الطواقم الطبية لتقديم الرعاية الصحية وسط أصعب الظروف، خلال فترات العدوان «الإسرائيلي» المتكرر على غزة، كان صوت القصف يهز جدران المستشفى، لكن أقدامه كانت ثابتة، ويداه لا تتوقفان عن العمل.
كان يعلم أن عمله ليس مجرد علاجٍ للأطفال المرضى، بل هو رسالة مقاومة، حيث أصبح رمزه الأبيض عنوانًا للصمود في وجه الاحتلال.
في 28 ديسمبر 2024م، اجتاحت قوات الاحتلال مستشفى كمال عدوان، وانتشرت مقاطع فيديو توثق اللحظة؛ الطبيب الذي خرج بردائه الأبيض، محاطًا بجنود مدججين بالسلاح، كان مشهدًا قاسيًا، وكأن الاحتلال أراد أن يُخمد رمز الإنسانية في هذا المكان.
لم تكن المحنة التي عاشها أبو صفية مجرد اعتقال، بل امتدت إلى صدمة فقدان ابنه، الذي رحل ضحية للعدوان ذاته، وعلى الجانب الآخر، تعرض المستشفى الذي طالما أشرف عليه لتدمير واسع، وكأن الاحتلال أراد محو كل ما بناه الطبيب بإصراره وجهده.
أبو صفية لم يكن مجرد طبيب، بل قصة كفاح لرجل حمل وطنه على أكتافه، وصاغ بردائه الأبيض ملحمة إنسانية في مواجهة الظلم والعدوان.