يعد الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم أحد أوجه الإبهار في اللغة العربية، التي سحرت عقول العرب، الذين كانوا من فصحاء وبلغاء الجاهلية، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل بالمعجزة التي تميز بها قومه، فعجزوا عن الإتيان بمثلها أو إنكارها، بل امتد خلودها إلى يوم الدين.
هذه السطور تكشف بعضاً من جوانب هذا الإعجاز بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية.
في البداية، يوضح د. عبدالحميد مدكور، الأمين العام لاتحاد المجامع اللغوية العربية، أن هناك شهادات كثيرة من غير المسلمين ببلاغة القرآن عن غيره من الكتب السماوية والوضعية، وهذه أبلغ شهادة من عدو ذمه القرآن نفسه فيما بعد، حيث انبهر بعض كفار مكة وامتدحوه حين سمعوه في بدايات نزوله بمكة متحدياً كفارها، وشهد بعضهم بأنه ليس من كلام البشر، بل إنه أعلى، وأبلغ، وأجمع، فاعتنقوا الإسلام.
في حين ظل آخرون على الكفر كبراً واستعلاء، ومنهم الوليد بن المغيرة، الذي قال كلمات رائعة يصف فيها القرآن الكريم وبلاغته، وعذوبة ألفاظه، وجزالتها، وحلاوتها وتراكيبها، ومعانيها، حتى إنه أخذ بمجامع قلبه، ومع هذا استمر من عتاة الكفر!
فقال الوليد بن المغيرة: إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قالوا: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! فقال: دعوني حتى أفكر، فلما فكر، قال: هذا سحر يؤثر؛ فنزلت فيه آيات تفضحه إلى يوم الدين: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً {12} وَبَنِينَ شُهُوداً {13} وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً {14} ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ {15} كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً {16} سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً {17} إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ {18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {19} ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {20} ثُمَّ نَظَرَ {21} ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ {22} ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ {23} فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ {24} إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} سَأُصْلِيهِ سَقَرَ {26} وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ {27} لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ {28} لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ {29} عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) (المدثر).
محاولة «الكذّاب»
ويشرح د. محمد عبدالدايم الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، جانباً آخر من بلاغة القرآن مقارنة بمحاولة مُسيلمة الكذّاب في محاكاته، وقد سجلته كتب التراث كمحاولة هزيلة مثيرة للسخرية والضحك لمدعي النبوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له فيه قومه «رحمان اليمامة»! وحاول تقليد بلاغة القرآن، وهو أحد أشهر مدعي النبوة في التاريخ الإسلامي، وأظهر الله كذبه، واشتهر في كتب السير والتاريخ والتراجم بـ«مُسيلمة الكذّاب»، وزعم أنه يوحى إليه.
وكتب الإمام أبو بكر الباقلاني في كتابه «إعجاز القرآن» عن كلام الجهلة المتنبئين كمسيلمة وغيره ممن حاولوا محاكاة بلاغة القرآن: ما قالوه أبلغ دليل على ضعف عقولهم وعقول من اتبعهم على ضلالهم، وكلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن فهو أخس مِنْ أنْ نَنْشَغِل به، وأسخف مِن أن نفكر فيه، وإنما نقلنا منه طرفًا (..) ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضل، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع.
ويشير الجندي، في حديثه لـ«المجتمع»، إلى أن بلاغة القرآن لم تتوقف على تحدي الإنس الذين فشلوا بأن يأتوا بمثله أو بمثل بعض آياته، وما زال التحدي مستمراً إلى يوم القيامة، ولم يقتصر التحدي على الإنس فقط، بل امتد إلى الجن، فعجزوا جميعاً أن يأتوا بمثله، وسيظل التحدي الإلهي للإنس والجن مستمراً إلى يوم القيامة، فقال الله تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء: 88).
إعجاز بلا حدود
ويربط د. عبدالفتاح خضر، أستاذ التفسير وعلوم القرآن، عميد كلية القرآن بجامعة الأزهر، بين بلاغة القرآن وتأثيرها الدعوي منذ نزول القرآن إلى يوم القيامة، وخشية أعداء الإسلام من ذلك، حتى قال جلادستون، رئيس وزراء بريطانيا منذ أكثر من 150 عاماً: «ما دام هذا القرآن موجودًا في أيدي المسلمين فلن نستطيع السيطرة على الشرق الإسلامي»، فبلاغة القرآن جزء من المعجزة النبوية التي تحدى الله بها العرب ليعرفهم أنهم رغم بلوغهم ذروة الفصاحة والبيان وبرعوا في فنون الأدب سواء كان شعراً أو نثراً، فكل ذلك لا يضاهى ببلاغة القرآن الذي له نسق وتأثير مختلف في النفوس عن كل الكلام وفنون الآداب.
ويشير إلى أن هناك فرقاً بين القرآن والمعجزات الحسية الأخرى التي أيد الله بها الأنبياء حتى يؤمن أقوامهم، فشاهدوا مواجهة موسى عليه السلام للسحرة، وشاهدوا انشقاق البحر وجمود المياه فيه فأصبحت كالجبل يمر عليه موسى ومن معه ثم عودة البحر كما كان، وكذلك المعجزات الحسية لنبيه عيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وغيرها من المعجزات بإذن الله، فكل نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم له معجزة مما برع فيه قومه، ومع هذا لم يؤمن إلا القليل جداً منهم، أما القرآن فهو معجزة عقلية خالدة.
ويضيف د. خضر، لـ«المجتمع»، أن إعجاز القرآن لم يتوقف عند بلاغته –مع أهميتها الدعوية- إلا أنه أضيفت أوجه أخرى للإعجاز، وهو ما يطلق عليه «الإعجاز العلمي» الذي يعتمد على الحقائق العلمية الثابتة التي توصل إلى كثير منها علماء من غير المسلمين، وعندما نجح علماء المسلمين في الربط بين كتاب الله المنظور وهو الكون، وكتاب الله المسطور وهو القرآن الكريم، أشهر كثير منهم إسلامه علانية في مؤتمرات عالمية، وتحولوا إلى دعاة للإسلام بلغة العلم التي تعد أصدق لغة لمن يقدسون العقل ويتوصل إليه من علوم وحقائق كونية.
محفوظ للأبد
ويلفت د. عبدالفتاح العواري، العميد السابق لكلية أصول الدين بالقاهرة، الانتباه إلى جانب آخر لإعجاز القرآن، يتعلق بهذا الحفظ الإلهي له بعد أكثر من 1400 سنة من نزوله، فلا يستطيع أحد تغيير تشكيلة واحدة لحرف من حروفه، حتى إن الفيروزآبادي في كتابه «بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز» عرض لبعض أوجه الإعجاز اللغوي القرآني، أوجزها بوجود 12 معنى معجزاً في القرآن.
وعرض لعشرات النماذج من ذلك، مثل إيجاز اللفظ مع تمام المعنى على سبيل الحذف والاختصار، وكذلك تشبيه الشيء بالشيء في بلاغة ودقة، واستعارة المعاني البديعة كالتعبير عن تكوير الليل والنهار بالسلخ، وتلاؤم الكلمات والحروف بما فيه من جمال المقال وكمال الكلام، وفواصل الآيات ومقاطعها، وتجانس الألفاظ يكون على سبيل المزاوجة، والتلاؤم والتناسب بين الكلمات، وتصريف القصص بألفاظ وعبارات متنوعة، وتضمين الحكم والأسرار، فمثلاً سورة «الفاتحة» نصفها الأول به أحكام الربوبية، ونصفها الثاني به أسباب العبودية، فكل كلمة بها كنوز المعاني والحقائق، وآياته بلغة الألفاظ ومكارم الأخلاق والأوامر والنواهي، والإخبار عما كان، وما سيكون بعد الموت والحساب والجنة والنار بألفاظ تجعل قارئها كأنه يرى ما يقرأ في نظم بديع سبحانه منزله القائل: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {27} قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر).