كاتب المدونة: هيام الزعبي (*)
إن العلاقات الاقتصادية الدولية تتمثل في ارتباط بين جهتين تنتمي كل واحدة منهما إلى وحدة سياسية مختلفة عن الأخرى، وينشأ الارتباط في محيط التعامل والتبادل الاقتصادي الدولي والعالمي على شكل اتفاق يعمل أطراف العلاقة على تنفيذ ما ورد فيه من التزامات وشروط.
هذه العلاقات تحكمها عدة قوى ومؤثرات مترابطة، بعضها يتعلق بالأنظمة الاقتصادية والسياسات، وبعضها الآخر بالعوامل الثقافية والتكنولوجية والجغرافية، كما يمكن تصنيف هذه القوى إلى ما يلي:
أولًا: القوى الاقتصادية:
تتمثل في عدة مظاهر، أهمها: الرأسمالية النظام السائد عالميًا حيث سيطرة الأسواق الحرة، والمنافسة، والربح على النشاط الاقتصادي، كما أن قوى العرض والطلب هي من تُحدد أسعار السلع والخدمات وتوجه الموارد.
ومن القوى أيضاً العولمة الاقتصادية حيث ترابط الأسواق الدولية وزيادة التبادل التجاري والاستثمارات بين الدول، كما أن للمنظمات الاقتصادية العالمية دوراً كبيراً في التحكم بالعلاقات الاقتصادية الدولية كمنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي.
ولا ننسى أيضاً الاقتصادات الناشئة الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل كقوى اقتصادية مؤثرة، ولها قدرة على تغيير موازين القوى التقليدية، والتكتلات الاقتصادية كالاتحاد الأوروبي واتفاقيات التجارة الحرة، التي تعزز التعاون بين الدول وتؤثر على العلاقات الاقتصادية الدولية.
ثانيًا: القوى السياسية:
تتمثل في الدول الكبرى ذات النفوذ السياسي والاقتصادي، مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، لما لها القدرة على تحديد سياسات التجارة والاستثمار العالمية، كما أن النزاعات الجيوسياسية تؤثر على تدفق الموارد والعلاقات التجارية.
وأيضاً السياسات الوطنية تعتبر من ضمن القوى السياسية، فالحكومات تحدد الضرائب، التعريفات الجمركية، والسياسات النقدية والمالية التي تؤثر على التجارة الدولية، ومعظم الدول تستخدم العقوبات الاقتصادية كأداة سياسية للتأثير على سياسات الدول الأخرى، وبالتالي وتؤثر على العلاقات الاقتصادية.
ثالثًا: القوى التكنولوجية:
تتمثل في الثورة الرقمية حيث إن التطور التكنولوجي وظهور الاقتصاد الرقمي جعل البيانات والمعلومات من أهم الموارد الاقتصادية، والذكاء الاصطناعي والأتمتة ساهمت في تغيير طبيعة العمل والإنتاج.
كما أن الابتكار والتقدم الصناعي في العديد من المجالات مثل الطاقة النظيفة، والفضاء، وتقنيات الاتصالات يُحدث تحولات في الاقتصاد العالمي.
رابعًا: القوى الاجتماعية والثقافية:
منها ما يتعلق بالقيم الاستهلاكية، فالأنماط الاستهلاك تتغير بفعل العوامل الثقافية والاجتماعية؛ ما يوجه الإنتاج والتجارة، والعمل والمهارات فالهجرة، والتعليم، وتغير طبيعة المهارات المطلوبة تؤثر على الاقتصاد العالمي، والفجوة بين الشمال والجنوب ففي أربعينيات القرن الماضي صار انقسام واضح مما نتج عن وعي واضح وبدأ الحديث عن دول شمال ودول جنوب (الدول الغنية والدول النامية)، 20% من سكان العالم يتركزون في دول الشمال (المصنعة)، و80% من السكان في الجنوب (النامية).
أما الموارد عكس ذلك تماماً؛ 80% في الدول المصنعة و20% في الدول النامية، والتجارة الدولية في الدول المصنعة تُسهم في 80% وأكثر أما الجنوب تساهم بأقل من 20% من التجارة الدولية، أما الإنتاج العالمي 85% في دول الشمال و15% دول الجنوب، وفيما يتعلق بالشركات متعددة الجنسية فإن عوائد الاستثمارات 90% من دول الشمال و10% في دول الجنوب، السيولة الدولية وأدواتها 96% في دول الشمال و4% من الجنوب، أما معدل زيادة الطبيعية للسكان في الدول الصناعية 1% والدول النامية 3.5% ولهذه الظاهرة أبعاد سياسية أيضاً، هذا الانقسام يحدد تدفقات التجارة والمساعدات والاستثمار، ويثبت أن لا توازن بين الشمال والجنوب.
خامسًا: القوى البيئية والجغرافية:
فما يتعلق بالموارد الطبيعية يتمثل في تأثير توزيع الموارد كالنفط والمعادن والموارد المائية على تحديد شكل العلاقات الاقتصادية، والتغير المناخي ويؤثر على إنتاج الغذاء والطاقة وبالتالي يؤثر في زيادة تكاليف الكوارث الطبيعية.
سادسًا: القوى المؤسسية والتنظيمية:
متمثلة في المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، التي تحدد القواعد الاقتصادية العالمية، الشركات متعددة الجنسيات لها دور محوري في تشكيل التجارة والاستثمار والإنتاج عبر الحدود.
سابعًا: القوى المالية:
النظام المصرفي العالمي له تأثير على السياسات النقدية وأسعار الصرف من خلال البنوك المركزية كالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
ومن القوى المالية أيضاً رأس المال والاستثمارات كون تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر والمحافظ الاستثمارية لها دور في التحكم بالعلاقات الاقتصادية بين الدول.
إذًا العلاقات الاقتصادية الدولية محكومة بتفاعل معقد بين قوى الاقتصاد، السياسة، التكنولوجيا، الثقافة، البيئة، والمال.
ثامنًا: المصلحة:
ومن جانب آخر، نرى أن منطق المصلحة الذاتية قد يطغى على بعض القوى الأخرى، فقد طغت المصالح على المبادئ التي تحكم العلاقات الاقتصادية الدولية، كما تعتبر إحدى القوى المحورية فتحقيق المصلحة الذاتية في النظام الرأسمالي، يُعتبر دافعًا أساسيًا للسلوك الاقتصادي، والأفراد والشركات يتخذون قرارات بناءً على تحقيق أكبر منفعة بأقل تكلفة، سواء في التجارة، الإنتاج، أو الاستثمار، ومن جانب آخر فإن المصلحة المشتركة تتجلى فيه سبل التعاون بين الدول والشركات في مجال التجارة أو الاستفادة من الموارد المتبادلة.
كما أن السياسات الاقتصادية للدول تُصاغ بناءً على تحقيق المصلحة الوطنية، مثل حماية الصناعات المحلية أو تأمين الموارد الإستراتيجية، والنزاعات التجارية أو العقوبات الاقتصادية غالبًا ما تحدث نتيجة تصادم المصالح الوطنية.
ومن أمثلة تأثير المصلحة في العلاقات الاقتصادية الاتفاقيات التجارية تبرم حسب المصلحة مثل تصدير الفائض من الصادرات، والصراعات على النفط، الغاز، والمعادن تُظهر كيف تسعى الدول لتحقيق مصلحتها في السيطرة على الموارد، التحالفات الاقتصادية تُبنى على المصالح الاقتصادية المشتركة، كما ظهر حديثا تنافس الدول والشركات على التفوق التكنولوجي لتحقيق مصالحها، سواء في الاقتصاد الرقمي أو الصناعات المتقدمة.
تاسعًا: السنن التي تحكم المجال الدولي:
وهي قواعد أو قوانين اجتماعية وسلوكية تنظم العلاقات بين الدول وفق منطق توازن القوة والمصالح، هذه السنن تستند إلى طبيعة البشر والمجتمعات، وتنعكس بشكل كبير على النظام الدولي.
سُنة المغالبة
يشير مفهوم المغالبة إلى التنافس والصراع على الهيمنة والسيطرة بين القوى الدولية، وتسمى أيضا المباراة (محاولة الفوز لمن غلب)، تكييف أو تطويع آخر لمفردة من مفردات المجتمع الإنساني (الدنيا لمن غلب)، فالطبيعة البشرية تميل إلى السعي وراء القوة والتفوق، مما يجعل العلاقات الدولية غالبًا ساحة للتنافس على الموارد، النفوذ، والمكانة.
ومن أهم الأمثلة على المغالبة الصراعات بين القوى العظمى مثل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، والمنافسة الاقتصادية والتكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية اليوم، ونتائج هذه الصراعات توازن القوى أو سيطرة دولة أو تحالف على الساحة الدولية، وظهور تحالفات أو نزاعات مسلحة.
سُنة المدافعة
تشير إلى الصراع الإيجابي أو السلبي بين القوى المختلفة لمنع هيمنة طرف واحد وللحفاظ على التوازن، والمدافعة تحقق التوازن وتمنع الطغيان أو الاستبداد الدولي، وفي المجال السياسي ظهرت أحلاف تجسيد وتمثيل، ومن الجانب الاقتصادي ظهرت التكتلات وعندما تشتد الحاجة تتحالف المجتمعات لاستجماع القوة مع الآخرين، ويخرج طرف من الحلف إذا وجد مصلحته تقتضي الخروج من الأحلاف.
ومن أهم الأمثلة على المدافعة تشكيل تحالفات دفاعية مثل الناتو لمواجهة النفوذ السوفيتي، ومقاومة الدول الصغيرة للتدخلات الكبرى عبر الأدوات الدبلوماسية أو الشعبية، ونتائج ذلك استمرار الصراعات بطريقة سلمية أو عنيفة، وتحقيق التوازن بين القوى وتقليل احتمالية هيمنة طرف واحد.
سُنة المعاملة بالمثل
مبدأ يعكس الرد على تصرفات الدول بطريقة مماثلة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، ويعتبر أقصى وأرقى ما يمكن اعتماده في العلاقات الدولية؛ ما يُسهم في تحقيق العدالة وضمان الردع دون تجاوز الحدود.
ومن أهم الأمثلة على سنن المعاملة بالمثل فرض العقوبات الاقتصادية بين الدول (مثل العقوبات المتبادلة بين روسيا والغرب)، واستجابة الدول بالمثل في العلاقات التجارية أو الدبلوماسية (مثل طرد الدبلوماسيين)، وأهم النتائج التي يمكن تحقيقها تصعيد أو تهدئة حسب الظروف، والمحافظة على نوع من التوازن الأخلاقي والسياسي.
إن تفاعل السنن في المجال الدولي يظهر في تداخل سنن المغالبة والمدافعة، فالمغالبة تسعى للسيطرة بينما المدافعة تهدف لمقاومة هذه السيطرة، وتتداخل سنن المعاملة بالمثل والمغالبة، فالمعاملة بالمثل يمكن أن تكون أداة في يد الدول الأضعف للردع، ما يحدّ من المغالبة المطلقة.
عاشرًا: انعكاس سنن المغالبة والمدافعة والمعاملة بالمثل في العلاقات الاقتصادية والسياسية:
– العلاقات الاقتصادية:
المغالبة تظهر في السباق لسيطرة على الموارد الطبيعية أو الأسواق.
المدافعة تتمثل في فرض سياسات حمائية أو تنظيم التجارة الدولية.
المعاملة بالمثل تظهر في الرسوم الجمركية والعقوبات.
– العلاقات السياسية:
المغالبة تتجلى في النزاعات الإقليمية أو السعي للهيمنة على المنظمات الدولية.
المدافعة تتضح في تكوين التحالفات الدفاعية أو مقاومة النفوذ الأجنبي.
المعاملة بالمثل تظهر في الردود الدبلوماسية والسياسات المتبادلة.
السنن الثلاث تُمثل القواعد التي تحكم العلاقات الدولية بشكل عام، وهي نابعة من طبيعة البشر والمجتمعات، فهم هذه السنن يساعد على تفسير التفاعلات الدولية ووضع سياسات متوازنة لتحقيق الاستقرار والعدالة في النظام العالمي.
__________________________
(*) رئيس قسم الاقتصاد والمصارف الإسلامية، أستاذ مساعد في كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال في الجامعة الإسلامية بمنيسوتا.