أصبحت الموصل في الفترة الأخيرة حديث القاصي والداني بعد الأحداث المريرة التي ما زالت تعايشها وما سيعقبها من تغييرات ستشمل خريطة العراق والشرق.
أصبحت الموصل في الفترة الأخيرة حديث القاصي والداني بعد الأحداث المريرة التي ما زالت تعايشها وما سيعقبها من تغييرات ستشمل خريطة العراق والشرق.
فالموصل وما يتبعها من مناطق كانت ولاية قائمة بذاتها في فترة الدولة العثمانية، وإقليماً قائماً بذاته فيما قبل ذلك على أيام الدولتين الأموية والعباسية يسمى بإقليم “الجزيرة”.
ويجهل الكثيرون أن بداية التصدي للغزو الصليبي وبدايات النجاح وأسسه التي أفضت لتحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي عام 583هـ بعد معركة “حطين” الشهيرة كانت من الموصل.
بدأت الحروب الصليبية عام 488هـ/ 1095م بعد خطبة ألقاها البابا “أوربان الثاني” في مقاطعة كليرمونت الفرنسية، اتهم فيها المسلمين بشتى الاتهامات الشائنة، منها تدنيس قبر المسيح الفارغ، وداعياً لتخليصه من أيدي المحمديين الوثنيين، وبشر الذاهبين لتحريره بأن حتى اللصوص سيصبحون أبطالاً، وكان يخفي من وراء ذلك مطامع استعمارية في خيرات الشرق وكنوزه.
بعد هزيمة السلاجقة الروم أمام الجحافل الصليبية، اتجه الصليبيون نحو بلاد الجزيرة وكانت عاصمتها الموصل، وقسم منهم اتجهوا صوب بلاد الشام مستهدفين أساساً بيت المقدس.
استطاع الصليبيون تأسيس إمارة الرها وهي منطقة أورفا الحالية على حدود بلاد الجزيرة عام 490هـ/ 1097م قبل تأسيس إمارة بيت المقدس عام 492هـ/ 1099م، وكانت أخطر الإمارات الصليبية لتوغلها للشرق بعيداً عن الساحل.
في هذه الأثناء كانت الموصل تحت حكم الأتابك “قربوقا” الذي لم يتردد في تحريك قواته المتكونة من القبائل العربية والكردية والتركمانية لمجابهة هذا العدو الداهم.
بعد وفاة “قربوفا” عام 495هـ/ 1102م تولى الأتابكي “جكرم” إمارة الموصل والذي سارع بعقد تحالف مع “سقمان بن أرتق” أمير ديار بكر، حيث تصدى للجيوش الصليبية التي كانت تنوي الاتجاه شرقاً والاستيلاء على الموصل وديار بكر.
اجتمعت القوى الصليبية أمام حران، ووقعت أولى المعارك الكبيرة في شعبان 495هـ، حيث انهزم الصليبيون وتم أسر قائدي الحملة “جوسلين”، و”بلدوين”.
وكما يقول د. عماد الدين خليل في بحثه القيم عن المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي: إن تحالف “جكرمش” مع “سقمآن”، قد أدى دوراً خطيراً في تاريخ الحروب الصليبية، حيث قدما أول نصر حاسم على الصليبيين فتح به الطريق لظهور قيادات وأحلاف إسلامية وجهت الضربات المتتالية للقوى الصليبية، تلك القيادات التي بدأت بـ”مودود” حاكم الموصل السلجوقي، وانتهت بصلاح الدين عبر إيلغازي وبلك الآرتقيين وآق سنقر البرسقي، ثم عماد الدين ونور الدين الزنكيين.
بقت الموصل تؤدي دوراً أساسياً بالتصدي للغزو الصليبي، حتى ظهور “شرف الدين مودود” بن التونتكين (501 – 507هـ) وبعد أن استتب له الأمر في الموصل توجه لمحاربة الصليبيين بأمر تلقاه من السلطان السلجوقي “محمد بن ملكشاه”، حيث كانت مملكة الرها مقصده، وصار تحت قيادته حكام الأقاليم في دولة السلاجقة كسقمان القبطي صاحب تبريز والأميران الكرديان أحمل يل صاحب مراغة، أشهر مدن أذربيجان وأبو الهيجان صاحب أربيل.
شن مودود ثلاث حملات على الرها رغم عدم انسجام كثير من الأمراء معه وحكام الأقاليم، لكن ذلك لم يمنعه من تسيير حملة نحو بيت المقدس عام 507هـ/ 1113م، فتحالف مع طغتكين أتابك دمشق، في أول بادرة تتحد فيها إمارة الموصل مع إمارة دمشق لمحاربة الصليبيين، ولكن اغتيال “مودود” من قبل الباطنية الإسماعيلية في جامع دمشق عام 507هـ قوض المساعي نحو تكملة المسيرة إلى بيت المقدس.
بعد استشهاد “مودود” استمر “آق سنقر البرسقي” حاكم الموصل على نهج سلفه، حيث جعل إسقاط إمارة الرها من أولوياته، ولكنه قتل على أيدي الباطنية أيضاً وهو يصلي الجمعة في الجامع الأموي عام 520هـ، لتدخل الموصل عهداً جديداً في حياة ابنه عماد الدين زنكي مؤسس الإمارة الزنكية الذي عمل على توحيد إمارات شمال الشام والعراق قبل أن يوجه اهتمامه صوب إمارة الرها، حيث توج جهوده بإسقاط هذه الإمارة سنة 539هـ/ 1144م والتي شكلت خطراً على الوجود الإسلامي عموماً، وأمر جنوده برد كل ما غنموه ومنعهم من التعرض للكنائس ودور العبادة، وكان نموذجاً رائعاً للتسامح ليلقى ربه شهيداً كذلك على أيدي الإسماعيلية الباطنية!
هذه الانتصارات التي بلورت أفكار التوحيد لخلفه نور الدين محمود (مهندس فتح بيت المقدس)، والذي عمل على ضم مصر لأتابكيته بعد توحيد الموصل وحلب، حيث استولى على مصر بعد أن أرسل لها حملة بقيادة أسد الدين شيركوه وبصحبة ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي عام 564هـ/1168م فتولى شيركوه الوزارة، والتي استلمها صلاح الدين بعد وفاته.
بعد أن توفي نور الدين محمود في دمشق استلم صلاح الدين الراية والذي كان خير خلف لخير سلف، فأسقط الدولة الفاطمية عام 567هـ، وأعلن الخطبة للخلافة العباسية من قبل شيخ سُني صوفي قدم من الموصل خصيصاً لهذا الهدف، ثم توج قمة أعماله بتحرير بيت المقدس عام 583هـ بعد أكثر من تسعة عقود على احتلاله ونقل منبر نور الدين محمود إلى المسجد الأقصى والذي سمي بمنبر صلاح الدين الذي أحرقه الصهاينة عام 1969م، فهل يعيد التاريخ نفسه؟