يعتقد المؤمنون بالكتب السماوية بقصة خلق آدم وحواء، وأحداث استقرارهما في الجنة ثم خروجهما منها: الخروج من دار النعيم إلى دار الشقاء، تلك القصة كأنها ترافق الإنسان في حياته يراها في نفسه وفي غيره، بحيث إن ذكراها لا تفتر تتكرر، خلق الله عز وجل الإنسان و
يعتقد المؤمنون بالكتب السماوية بقصة خلق آدم وحواء، وأحداث استقرارهما في الجنة ثم خروجهما منها: الخروج من دار النعيم إلى دار الشقاء، تلك القصة كأنها ترافق الإنسان في حياته يراها في نفسه وفي غيره، بحيث إن ذكراها لا تفتر تتكرر، خلق الله عز وجل الإنسان وأودعه الجنة يعيش في نعيمها، غير أنه لما عصى ربه خرج منها ونزل إلى الدار الدنيا يكابد معاناتها ومشاقها؛ على أمل الرجوع إلى وطنه الأم من جديد.
1- ذكرى الخلق:
– فالإنسان يخلق في رحم أمه وقد كان قبل ذلك في حكم العدم، وهو في تطور نموه في رحم أمه كأنه من خلق إلى خلق.
– والإنسان حين يولد بخروجه من رحم أمه نفس جديدة تضاف إلى الرصيد البشري.
– والإنسان حين يلج بوابة سن البلوغ كأنما يولد من جديد ولادة ثانية، خلقة جديدة تختلف عن خلقة الطفولة، تصبح بكل مكوناتها مستعدة لتحمل أعباء الاستخلاف في الأرض.
2- ذكرى نعيم الجنة:
– فالإنسان عندما يكون جنيناً في رحم أمه، ورضيعاً في حجر أمه، وطفلاً في كنف والديه كأنما هو في نعيم الجنة تُقْضى حاجاته دون عناء، في حل من أحمال وهموم المسؤولية.
– والإنسان عندما يتذكر أيام طفولته كأنما هو يتذكر جنة مفقودة؛ فحلاوة سنين الطفولة حتى ولو في أحلك الظروف يفتقدها الإنسان في باقي مراحل حياته إلى أن يرى آثارها تتكرر من جديد في طفولة أبنائه وأحفاده.
– والإنسان عندما ينظر إلى طفله كأنما هو ينظر إلى أثر من آثار الجنة؛ حيث لا ريح أزكى من ريح الأطفال، ولا ملمس أنعم من ملمس الأطفال، ولا منظر أجمل من منظر براءة وعفوية الأطفال، ولا سعادة أصدق من السعادة التي تشع بها عيون الأطفال، سمتهم الطهر والنقاء قلباً وقالباً.
– الأطفال كأنما هي كائنات نورانية سماوية، لا تلبث أن تفقد آثار نورانيتها وسماويتها تدريجياً كلما تقدمت بها السنون حيث تنحدر تدريجياً وتنغمس في وحل الكائنات الأرضية.. الأطفال طيور خفيفة الحِمل تحلق في سماء الخيال عالياً لا حدود لآفاقها، غير أن تقدمها في السن يزيد من حملها فيجعلها تبطئ في الطيران تدريجياً إلى أن تعجز عنه فتسقط على واقع الأرض، أفقها ضيق تحده تضاريس الحياة الوعرة.. ليبقى ما بين الطفولة والكِبَر كما بين السماء والأرض؛ السماء في عليائها وسعة أفقها، والأرض في دنيويتها وضيق أفقها.
3- ذكرى الخروج والنزول:
– فالإنسان يخرج إلى الدنيا بمخاض يكلف الأم الوجع الشديد، وصراخها تعقبه صرخة المولود الخارج النازل من الرحم، كأنما كل ذلك تذكار من صرخة مأساوية مدوية تعتمل في نفس البشرية منذ خروجها من رحم الجنة، والإنسان في خروجه ونزوله من رحم أمه تحوطه قذارة مخرجي البول والغائط، كأنما هي دلالة على فظاعة حدث الخروج والنزول من علياء الجنة إلى هاوية الحياة الدنيا القذرة.
– والإنسان يخرج من بهجة جنة الطفولة إلى شقاء وهموم المسؤولية عبر بوابة تذكرنا بقصة الخروج والنزول من الجنة؛ فخروج أبَوَيْنا كان بعد حادثة أكل الثمرة المحرمة وما نجم عنها من تَكَشّفهما على بعضهما بعضاً، وكذلك خروج الإنسان من مرحلة الطفولة إلى مرحلة تحمل الأعباء عبر بوابة تَكَشّف ونضج الأعضاء الجنسية فيما يعرف بسن البلوغ الذي يرتبط ببداية التكليف.
– والإنسان وقد ولج باب سن البلوغ يكون قد ودَّع رغد ما كان ينعم به في مرحلة الطفولة ودخل مرحلة تحمل المسؤولية والتكاليف مع ما تحمله من شقاء ومكابدة.. فشتان بين ما يجول في نفوس الأطفال وما يجول في نفوس البالغين؛ السعادة تنازعها في النفس الهموم، وما من نعمة إلا وتخالطها منغصات، وما من شيء إلا وتعتريه النواقص، وأحوال الناس لا تكاد تستقر على بر أمان حتى تباغتها أمواج الحياة المتلاطمة من جديد تجرها إلى غمار بحرها الهائج.
– وسمات البلوغ لا علاقة لها تماماً بسمات الطفولة؛ فالريح ريح عرق، والملمس أبعد عن النعومة، والمنظر أبعد عن العفوية والبراءة، والسعادة تبدو أبعد منالاً، والطهر والنقاء عملة نادرة.
مطالبون بأن ندع الأطفال يسرحون ويحلقون ويمرحون في رحاب جنانهم وفضاء سمائهم، ونحذر أن نكون نكتة سوداء تشوش عليهم نصاعة ذكريات طفولتهم.
لعله إن كان هناك من حنين يشدنا، فلن يكون أقوى من الحنين إلى براءة وعفوية الطفولة، ونعيم الجنة.