بعد أن صار العراقيون اليوم قاب قوسين أو أدنى من وأد التعايش السلمي فيما بينهم، وكشف أكذوبة النسيج المجتمعي الرصين العابر للطائفية والقومية والذي عاشوا في خياله عدد سنين؛ نرى الكثير منهم اليوم وقد هرب من الواقع المرير والمستقبل المخيف (رغم أنفه) نحو م
بعد أن صار العراقيون اليوم قاب قوسين أو أدنى من وأد التعايش السلمي فيما بينهم، وكشف أكذوبة النسيج المجتمعي الرصين العابر للطائفية والقومية والذي عاشوا في خياله عدد سنين؛ نرى الكثير منهم اليوم وقد هرب من الواقع المرير والمستقبل المخيف (رغم أنفه) نحو ماض آمن سعيد بعيد، وهو يحاول أن يأوي ويعيش ذكرى أحداث الزمن الجميل، ليوهم نفسه – أحياناً – أن لتلك الأحداث جذوراً وامتداداً تطال أرض اليوم، والتي قد تمثل أملاً لبعثها من جديد!
فنرى بعض مَن طبع الدهر عليهم وطأته وآثاره وملامحه، وقد طال بهم العمر وهم يجلسون على مقاعد المقاهي والبيوت، يتندرون بتلك المواقف البهية والسلوكيات الزكية للعراقيين أيام كان للجار حرمة وللعرف مقام وللمروءة وجود، وهم يردفون تلك الحوادث بعتيق الأمثال الشعبية التي قد تكون آخر ما يملكونه من ميراثٍ عراقي يُشعرهم بوطنيتهم!
من هنا (ومن باب المواساة لهذا الجيل الرائد المسكين) اخترت اليوم وفي مقالي هذا الأمثال الشعبية وسيلة للتعريف بالسياسة العراقية الجديدة!
فبعد رحيل “المالكي” وقدوم حكومة “العبادي” الجديدة – والمثيرة للجدل! – والتي ملأت الدنيا ضجيجاً واستمالت الغرب قبل الشرق بمعسول حديثها وكثير وعودها، ولكن ما زلنا ولحد يومنا هذا نسمع من الحكومة الجديدة الكثير، ولا نرى منها إلا القليل، هذا إذا ما رأينا شيئاً! حتى انطبق على حالنا مع حكومتنا العبادية الفتيّة المثل الشعبي القائل: “أسمع كلامك أصدقك.. أشوف أمورك أستعجب!”.. وسنقف بإذن الله ست وقفات مع أهم سياسات حكومة “العبادي” الجديدة بالمثل الشعبي الذي يوافقها:
1- السياسة الخارجية: “بالوجه مرايا.. وبالظهر سلاّية”:
إنّ قشور سياسة العراق الخارجية والتي يعبر عنها السيد الجعفري باعتباره وزيراً للخارجية ورئيساً للتحالف الوطني الشيعي في ذات الوقت.. تتباهى اليوم بمشروع عراقي جديد.. يحمل معالم الانفتاح ويعود بالعراق العربي إلى حضنه وحاضنته العربية.. متظاهراً بطي صفحات المالكي المليئة بذم ولعن المحيط العربي عامة.. والخليجي منه خاصة! وفي “بروبجندا” لا نراها ولا نسمعها إلا في التصريحات الملازمة لزيارات الدول العربية، والتي تشم فيها رائحة التكلف وتتذوق فيها طعم المناورة والتصنع!
ووسط كل هذه الأكوام من التكلفات والقشور، نذهب لنرى ونسمع التوجهات الحقيقية للجعفري والائتلاف الذي يمثله من خلال إعلامهم الداخلي الذي يشغل الحيز الأكبر في الإعلام العراقي.. من خلال اللقاءات والندوات ونشرات الأخبار في فضائياتهم.. خاصة إذا ما علمنا أن كلاً من – المالكي والجعفري والحكيم والخزعلي والصدر وغيرهم – له قناة فضائية.. أو أكثر.. ولا عجب! وما زالت تلك القنوات – الصادقة في تعبيرها وغير المداهنة في توجهاتها – تتحدث عن العرب عامة ودول الخليج خاصة، باعتبارهم عدواً لدوداً وخصماً دائماً وممولاً للإرهاب وراعياً لفكر تكفيري يستهدفهم قبل كل شيء، وكل هذا الذم الصادر من أعماق قلوبهم وصادق توجهاتهم يتزامن مع تلك التصريحات الودية لوزير الخارجية العراقي.. وبلا خجل أو وجل!
2- سياسة الحرب على الفساد: “ضربني وبكى، وسبقني واشتكى”:
بفضل المالكي وزبانيته، فقد تسلمت الحكومة العبادية الحالية من الحكومة المالكية السابقة خزينة مالية خاوية على عروشها، إضافة إلى ملفات فساد جعلت من الدولة العراقية وبلا فخر المتربع الآمن على قمة لائحة الفساد الدولية.
من هنا لعبت حكومة العبادي لعبتها التي أذهلت الغرب عامة والأمريكيين خاصة، وسبقت العراقيين الشرفاء بالمطالبة بمحاسبة المجرمين وتجار الوطن، عندما أعلنت حربها على الفساد والمفسدين، وبلسان معسول مبين، فهل نسي “العبادي” أنه قيادي في حزب الدعوة ومشارك في حكم العراق مع حكومات الجعفري والمالكي لدورتين! ولكنها ضربة معلم، صوت عال يخرس الآخرين، وأثر غائب لكل إصلاح تراعى فيها إنسانية أو دين.
فكانت قوائم إعفاء ضباط الجيش والداخلية، ولكن ليس على مبدأ “استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير”، وإنما على مبدأ “استبدال الذي هو أدنى بالذي هو أدنى”، ومما زاد الطين بلّة أن البديل جاء من ذات المكون، وكأن التهميش أصل في حكومات ما بعد الاحتلال، وبدل أن تُحاسب الرؤوس الكبيرة المسؤولة والموجهة للإفساد والإجرام، نرى المتهمين المُحاسبين على عدد الأصابع، ومن الرؤوس الصغيرة من الجيل العاشر أو العشرين من المُفسدين، ويكفينا مثالاً نوري المالكي، المجرم الأول في القتل والفساد والخيانة، فهو إلى ساعات كتابة هذا المقال ما زال يُمجد ويُثنى عليه من العبادي، بل ومن إيران، لدوره التاريخي الذي بذله في حماية الـ…!
3– سياسة مليشيا الحشد الشعبي: “المسمار الأخير في نعش التعايش السلمي”:
خنجر مسموم في صدر (ولا أقول ظهر!) التعايش بين أبناء الوطن الواحد، شرعية منحت للمليشيات بفتوى طائفية مغلفة بدعوى وطنية، لتقتل وتحرق وتسرق دون حساب، بل بشكر وتقدير، كبديل للجيش العراقي العرمرم، حين تبخر وقوات الأمن الداخلي في محافظتي الموصل وصلاح الدين وخلال ساعات، ذلك الجيش الذي أذاق أهالي تلك المحافظات الويلات من إجراءات التصفية والاعتقال والذل والإهانة، فكانت أبواب الفرج الشيطاني للمليشيات أن تسلحت من خزينة الدولة وسرقت من خزينة الدولة، وركبت سيارات الدولة ولبست لباس الدولة، وقتلت أبناء القرى السُّنية وهجرت الباقين وحرقت مدنهم وقراهم، تحت غطاء الدولة وشرعية الفتوى الكفائية للمرجعية الدينية!
لقد ذبح سفه مليشيا الحشد الشعبي أمل التعايش في العراق من الوريد إلى الوريد، ودق المسمار الأخير في نعش التعايش السلمي.
4- سياسة حكومة الوحدة الوطنية: “تريد أرنب أخذ أرنب، تريد غزال أخذ أرنب!”:
بينما زج التحالف الوطني الشيعي ساداته وكبراءه ورافعي لواء مشروعه في المشاركة في حكومة العبادي كـ (إبراهيم الجعفري، وعادل عبدالمهدي، وباقر جبر صولاغ، وحسين الشهرستاني، ومحمد الغبان و…)، نرى أن ذات التحالف قد نجح من جهة أخرى وبمساعدات خارجية في صناعة منافسيه في البرلمان والوزارة من العرب السُّنة، فلا يختلف في العراق اثنان على أن هذه الدورة البرلمانية (عام 2014م) والحكومة الحالية مثلت أضعف الممثلين للعرب السُّنّة وأكثرهم فساداً وأبعدهم حملاً للأمانة، إلا من رحم ربي من قلّة قليلة، وبذلك نرى الأزمات الأكثر اليوم هي سُنية – سُنية سواء كان في البرلمان أو في الوزارة أو في المشاريع، قبل أن تكون مع غيرهم، لقد ضحك الشيعة والكرد على السُّنّة (كالعادة) في تشكيل الوزارة الجديدة من أكثر من وجهة منها:
أ- عدم تسليم السُّنّة العرب أي وزارة سيادية، فبعد أن أخذ الكرد وزارة المالية، وأخذ الشيعة وزارتي النفط والخارجية، أوهم الشيعة وفد التحالف السُّني من أن وزارة التخطيط هي وزارة سيادية! في بلد لا يعرف فيه معنى التخطيط أصلاً، ليثبت السياسيون السُّنة للعالم وبكل فخر قدراتهم الخارقة في أن يُلدغوا من جحر مرات ومرات، والفضل في ذلك لبابان وسلمان!
ب- رفض التحالف الوطني القاطع لقبول ترشيح الأقوياء من سياسيي أهل السُّنة للمناصب الرئاسية والوزارية، كما حصل مع رفض أسامة النجيفي، ورافع العيساوي.
جـ- حرص التحالف الوطني على اختيار (سنّة المالكي) ممن صعدوا للبرلمان بأموال السحت والفساد، ليمثلوا العرب السُّنة في كابينة الوزارة العبادية الجديدة، مثل أحمد الجبوري أبو مازن، وقتيبة الجبوري، و.. و.. إضافة إلى صالح المطلك.
د- ازدواجية معايير اختيار الوزراء الأمنيين، فقد تم اختيار محمد الغبان القيادي في فيلق بدر والمقاتل صفاً بصف مع فيلق القدس الإيراني وقائده سليماني، كوزير للداخلية، بينما تم اختيار الحمل الوديع العبيدي وزيراً للدفاع، ومصداق الفرق بين الرجلين، واضح من تصريحاتهم، فبينما أعلن الغبان وبكل وقاحة نيته إلى التعاون مع المليشيات من الحشد الشعبي في مسك أمن بغداد، كذّب العبيدي في تصريح مستهتر جرائم المليشيات، بل وشكره لمليشيات بدر والحشد الشعبي وتثمين دورها في ديالى، وقد أهلكت هذه المليشيات الحرث والنسل ولم يرقبوا في سُنّي إلاً ولا ذمة.
5- سياسة العلاقة بين المكونات: “أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”:
بعيداً عن المثاليات والأحلام التي عاش فيها أهل السُّنة ومنذ سقوط بغداد 2013م، من أن الكرد يمثلون العمق الحقيقي للعرب السُّنة باعتبارهم سُنّة أقحاح! (إذا صح التعبير)، فإن القراءة الحقيقية لمشهد المكونات العراقية يعلن أن العرب السُّنة وممثليهم لا بواكي لهم، فبينما يشتد مشهد النزاع بين الشيعة والكرد، نرى أن الأحزاب الشيعية تتكاتف متناسية خلافاتها من أجل كسب المغانم، وكذلك الحال بالنسبة للكرد، حتى إذا ما دخل أهل السُّنة في المعادلة تصافى الكرد والشيعة من أجل نيل المكاسب على حساب أهل السُّنة، فالمصالح هي من يحكم المواقف، والغريب في المعادلة العراقية هم أهل السُّنة بين أخوّة الشيعة، وأبناء عمومة الكرد.
6- سياسة المصالحة الوطنية: “مُخطئ من ظن يوماً أن للثعلب ديناً”:
ما زالت معالم المصالحة الوطنية (العرجاء) التي تريدها الحكومة العراقية توصف بما يلي:
أ- غياب النيّة الحقيقية في المصالحة.
ب- تجاهل وتهميش أصحاب الحقوق الأصلاء والمطالبين بحقوق أهل السُّنة المسروقة.
جـ- صناعة بدلاء من الممثلين لأهل السُّنة من العملاء والنفعيين.
د- تشويه سمعة قيادات وعشائر أهل السُّنة من المتصدين للظلم والمعبرين عن حقوق جماهير أهل السُّنة المسلوبة، بل وتجريمهم واتهامهم زوراً وبهتاناً بالإرهاب.
هـ- التركيز في الإعلام على تزييف الحقائق دون وجود أي أثر حقيقي لتلك المصالحة على الساحة العراقية.
و- الحرص على إفراغ مشاريع إعادة أهل السُّنة من محتواها وحرفها بمشاريع شكلية يقوم عليها المنتفعون.
ويبقى الأمل بعد الله تعالى معقوداً بوقفة جادة من جميع القوى الوطنية والعروبية والإسلامية، من داخل العراق وخارجه للوقوف بوجه مشروع هدّام لا يبقي ولا يذر، يستهدف النفس والعرض والعقيدة، وللتحرك السريع في وأد الخطر، حتى لا نقول: “أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض”.