في نهاية عام 2010 عمت حمى التضخم معظم أسواق الدول الناشئة، بسبب البرنامج التحفيزي الأمريكي، الذي تضمن شراء سندات للخزانة الأمريكية بقيمة 600 مليار دولار
في نهاية عام 2010 عمت حمى التضخم معظم أسواق الدول الناشئة، بسبب البرنامج التحفيزي الأمريكي، الذي تضمن شراء سندات للخزانة الأمريكية بقيمة 600 مليار دولار، وهو ما دعا معظم الدول الصاعدة لفرض ضرائب على أسواق المال بها لمواجهة الأموال الساخنة الآتية في إطار برنامج التسهيل الكمي الأمريكي.
وهرب جزء كبير من أموال شراء السندات إلى الأسواق الخارجية، بحثًا عن معدلات ربح أعلى مما هو عليه الأمر في أمريكا، وكان تصرف دول الأسواق الناشئة إجراء احترازيًا لحماية الأسواق من ارتفاع معدلات التضخم، وعمليات الإرباك المالية التي تتسبب فيها الأموال الساخنة.
ومؤخرًا أعلن البنك المركزي الأوروبي أنه بصدد دراسة برنامج لشراء سندات الشركات المضمونة بوجود أصول، بحدود التريليون يورو، بغية تحريك الأسواق الأوروبية، – نشر أحد مراكز الأبحاث الغربية بأن البرنامج سوف يتضمن كذلك شراء سندات حكومية على الأقل بنسبة 50 % من حجم الأموال المرصودة لبرنامج شراء السندات- وإن كان البنك لم يحدد بعد ميعاد لدخول هذا البرنامج إلى حيز التنفيذ، ولكن صدى هذا الإعلان كان سريعًا على أسعار اليورو وأسواق المال الأوروبية، حيث انخفض سعر اليورو مقابل الدولار، وحدث انتعاش في أسواق المال الأوروبية، انتظارًا لعمليات شراء أسهم تلك الشركات التي سيشملها برنامج التحفيز بشراء سنداتها.
الخطوة من وجهة نظر المركزي الأوروبي سوف تمكن الشركات من سيولة جيدة تدفع بها لزيادة الاستثمارات، وبخاصة بعد أن وصل سعر الفائدة في السوق الأوروبية لمعدل “صفر”، وتتخوف ألمانيا من المردود السلبي لهذه الخطوة، لما سيترتب عليها من ارتفاع معدلات التضخم، وطالب بعض البرلمانيين الألمان بأن يركز المركزي الأوروبي على مهمته الأساسية والمتمثلة في الحفاظ على استقرار الأسعار، وأن يبتعد عن تلك الإجراءات غير مضمونة العواقب، والمشكوك في مردودها الإيجابي على الاقتصاد الأوروبي.
ولا يرجع التخوف الألماني من خطوة المركزي الأوروبي إلى شراء سندات محفوفة بالمخاطر في ظل حالة الركود التي تعيشها أوروبا فقط، ولكن تخوف ألمانيا الأكبر، أن يلجأ البنك إلى تمويل هذا البرنامج عبر طباعة النقود كما حدث في أمريكا واليابان.
ويلاحظ أن المانيا عادة ما تتحفظ على الإجراءات التحفيزية، إذا ما كانت في شكل دعم بلا مقابل، كما فعلت في أزمة اليونان، وعند تكوين صندوق الإنقاذ الأوروبي، فحرصت المانيا على أن تكون تلك الإجراءات نظير إصلاحات حقيقية، حتى لا تكون مكافأة للفاسدين، أو مخرج لإهدار أموال صندوق الإنقاذ.
ومما يدفع المؤسسات الاقتصادية والمالية في أوروبا لخطط التحفيز معدلات النمو المتباطئة، والتعافي الهش، حيث تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن معدل النمو بنهاية 2014 سيكون بحدود 0.8 %، وأن النمو سوف يتزايد خلال عام 2015 ليصل إلى 1.3 %، وهي بلا شك معدلات لا تعكس حجم الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعيشها أوروبا منذ سنوات.
سلبيات برنامج السندات
على الرغم من أن برنامج شراء السندات من قبل البنك المركزي الأوروبي مازال قيد الدراسة، إلا أنه في حالة الإقدام على تنفيذه، سوف يترتب عليه مجموعة من السلبيات، والتي من أخطرها تصدير التضخم لخارج أوروبا، عبر خروج هذه الأموال في شكل استثمارات في أسواق المال في باقي دول العالم، وهي تجربة مسبوقة كما ذكرنا من قبل في الحالة الأمريكية مع نهاية عام 2010.
إن حالة إنعاش الاقتصاد الأوروبي الذي يعاني من ضعف معدلات النمو، والتي لا تزيد 0.3 % خلال الربع الثالث من عام 2014، لا تكون عبر هذه البرامج التضخمية، فلو أن المسألة قضية استثمار، فإن سعر الفائدة في أوروبا أصبح صفر، وهو ما يعني أن القضية متمثلة في جانب إنعاش الطلب، ليتحرك الاستهلاك بشكل كبير وبالتالي الإنتاج، فتزيد فرص العمل، وتقل معدلات البطالة التي وصلت معدلاتها لنحو 11.5 % في نهاية أغسطس/ آب 2014.
ولكن قد يتخذ أصحاب السندات – ولو بنسبة معينة – سلوكًا مخالفًا، بالابتعاد عن الاستهلاك، والاتجاه نحو الادخار، أو الخروج بهذه الأموال لدول خارج أوروبا بحثًا عن عائد استثماري أفضل – وبخاصة تلك الأموال التي تخص صناديق المعاشات وباقي المؤسسات الأخرى- فماذا سيفعل المركزي الأوروبي فهذه الحالة؟ حيث ستكون خطوة شراء السندات قد فقدت الغرض منها.
وسوف تكون سوق الأوراق المالية في أوروبا مرتعًا خصبًا للمضاربات، مما سنعكس آثره على باقي أسواق المال العالمية، فمبلغ تريليون يورو، من شأنه أن يؤدي إلى تغيرات كبيرة في أسواق المال، وبخاصة أن هذا الضخ لا يتجه لاقتصاد إنتاجي، أو لتأسيس شركات جديدة، ولكنه يستثمر في شراء سندات.
ويتوقع في ظل تنفيذ برنامج شراء السندات من قبل المركزي الأوروبي أن يشهد اليورو انخفاضات كبيرة مقابل الدولار والعملات الدولية الأخرى، وفي هذه الحالة فإن حائزي الثروات وأصحاب التجارات والمعاملات الاقتصادية مع أوروبا سيتضررون بشكل كبير، حيث ستقل مدخرات من لديهم ثروات مقدرة باليورو، كما أن المعاملات الاقتصادية والتجارية ستشهد حالة من الارتباك، فالواردات من أوروبا ستكون أرخص، بينما الصادرات ستكون قيمتها سلبية.
وهنا نشير إلى أن المنطقة العربية لديها تعاملات كبيرة مع أوروبا، ويعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول للمنطقة، فحسب تقديرات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2013، يستحوذ الاتحاد الأوروبي على 13.5 % من الصادرات العربية، ويستحوذ على نسبة 26.5 % من الواردات العربية.
ولعله من المفيد أن نذكر بمشروعات تخص المنطقة العربية في وجود عملة موحدة، فالعملة العربية الموحدة فُقد فيها الأمل بسبب فشل المشروع التكاملي العربي، ولكن كانت هناك آمال معلقة على العملة الخليجية الموحدة، باعتبارها نواة لنجاح صور أخرى لتجارب التكامل العربية، ولكنها على ما يبدو ستلقى مصير العملة العربية الموحدة.
تصدير المشكلات
منذ سنوات طويلة وأمريكا والدول الغربية تمارس آليات تخص السياسات المالية والنقدية بصورة تضر بباقي اقتصاديات العالم، بدءًا من التخلي عن قاعدة الذهب من قبل أمريكا مطلع السبعينيات، ومرورًا بعمليات تخفيض قيمة العملات الدولية أكثر من مرة، وكذلك طباعة النقود الورقية دون غطاء حقيقي من ذهب أو عملات أجنبية، أو زيادة في مخزون السلع والخدمات.
لو أن دولة صاعدة أو نامية اتخذت مثل هذا الإجراءات لخرجت مؤسسات الائتمان تهدد وتتوعد عبر تقويماتها برداءة الديون، وتصاعد الدين العام، وحذرت البنوك، ولكن مع الدول الغربية وأمريكا تبقى سياسات تخص دولها، ولا تدان تصرفاتها، على الرغم من أثارها السيئة على بقية اقتصاديات العالم المرتبطة بأمريكا والغرب.
ففي حين تتحمل الدول التي لديها تعاملات اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي آثارًا سلبية تتعلق بخفض قيمة ثرواتها، نجد أن البنك المركزي الأوروبي لم يتحمل سوى تكلفة طباعة النقود، وهو ظلم بين، ولكنها علاقة التبعية التي خضعت لها الدول النامية والصاعدة من خلال نظرية المركز والمحاور التي تم من خلالها إدارة العلاقات الاقتصادية بين الدول النامية والمتقدمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
قد يكون من المناسب أن تفعل دعاوى النظام المالي الجديد، الذي يحد من سيطرة أمريكا والغرب على المقدرات المالية للعالم، لقد صرخ قادة أوروبا إبان الأزمة المالية العالمية وما تبعها من أزمات حينما وقعت الكارثة، وتضررت هذه الاقتصاديات بشكل كبير، وطالبوا بضرورة إصلاح السياسات المتبعة في البنك والصندوق الدوليين، ولكن هذه الدعوة كانت مجرد حبر على ورق، لم تر النور، ولازالت أمريكا وأوروبا يسيطران على مقدرات إدارة هذه المؤسسات المالية العالمية، ويوجهانها لمصلحتهما فقط.
ناقوس الخطر
متى تعيد الدول سياساتها تجاه ربط عملتها باليورو أو الدولار، ووجود عملات أكثر استقرارًا، ولا تكون عرضة لتقلبات السياسات النقدية والمالية في أمريكا وأوروبا، إن خطوات الصين في هذا المضمار ملموسة، وإن كانت تسير ببطيء شديد، ولكن يُخشى في النهاية أن يتم إدراج العملة الصينية كعملة دولية مستقبلًا، ولكن في ضوء المصالح المشتركة، بين الصين وكل من أمريكا والغرب، وبخاصة أن الصين أصبحت الشريك التجاري الأول لهما منذ ما يزيد على عقد من الزمن.
إن لجوء بعض الدول لتكوين سلة أرصدتها من النقد الأجنبي من عملات مختلفة، غير كاف، نظرًا لتأرجح قيمة العملات بين الفينة والفينة، ولكن على الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي، أن تطالب بنظام نقدي عادل لا يحابي دول بعينها، كما يضمن ألا تتعرض ثروات الشعوب، لمغامرات الدول الكبرى.