تعلّم كيف تفكّر لعصرك، ولا تتعلّم كي تكون مُفكّر العصر. فالتعلّم الأوّل، فيه تواصل بين تفكيرك والمفكّر فيه (العصر) فيحدث الإبداع من طريق التفاعل بينهما. أمّا التعلّم الثاني، ففيه تواصل بين الأنا والمفكّر فيه، فيستغل صاحبه تفكيره حتى يضخّم الأنا ويزد
رمزي بن دبكة
تعلّم كيف تفكّر لعصرك، ولا تتعلّم كي تكون مُفكّر العصر.. فالتعلّم الأوّل فيه تواصل بين تفكيرك والمفكّر فيه (العصر)؛ فيحدث الإبداع من طريق التفاعل بينهما.. أمّا التعلّم الثاني، ففيه تواصل بين الأنا والمفكّر فيه، فيستغل صاحبه تفكيره حتى يضخّم الأنا ويزداد مكانة بين النّاس، ولكن يكون ذلك على حساب القيم، وعلى حساب قضايا عصره، فتفكيرك لعصرك يجعل منك مُفكّراً لا محالة، ولكن سعيك بأن تتسمّى بلفظ مفكّر هو سعي خلف المظاهر، فينفتح باب الأنا ويستغرق كلّ فكرك، ويُغلق باب عصرك لأنّك استبدلته بالأنا فقط.
وتفصيل ذلك؛ هو أنّ الشهوة الحاضرة تؤثّر في ملكة التفكير المستمرّة؛ إذ إنّ التفكير واستمراريّته في البحث، والتفحّص، والتدقيق لا توقفها إلاّ شهوة جامحة آنيّة؛ فتتكوّن بذلك رغبة في تحقيق لذّة الحاضر، وتتوقّف عمليّة التفكير منحرفة عن الاستمراريّة، وذلك كنتيجة حتميّة للاستجابة الجسميّة، والعقليّة لتلك الشهوة، وإنّه من أعظم ما قد يُبتلى به المرء في هذا العصر هو شهوة إشباع الرغبة بادعاء صاحبها للعلم والفكر، حتى يُذكر اسمه ويشاع على أنّه مفكّر.
الفكر قيمة في ذاته لا يُحتاج في وصفه إلى ألقاب، ولكنّ لقب مُفكّر محتاج إلى إتقان التفكير، فكان هذا اللقب مفتقراً إلى تلك القيمة حتّى يتحقّق له الوصف واقعاً، فعندما يُطلق لفظ مفكّر على من ليس له منه نصيب، يصير صاحب اللّقب عالة على الفكر، ويصبح هذا الفكر أسيراً في يد من ادعاه بهتاناً وزوراً، بعدما كان فكراً حرّاً، طليقاً، وخالياً من كل التباس، عندها يضيع التفكير للعصر لا بسبب ضعفه بذاته، وإنّما بسبب عدم وجود القدرة على استيعابه فيمن يدّعيه، فيلخّصه بعضهم في الأنا وفيما تريده الرغبات، وعلى رأسها حبّ الظهور والتسمّي.
وهكذا، فإنّ الأحكام التي تُطلق على الأشخاص سلباً، تصير متعلّقة بالفكر ذاته فيحصل الخلل، وتقوى معه العلل، وتكون النتيجة بأن يصاب المجتمع في معيشته وحياته بالشلل، فليس كل مجتمع له القوّة على التفريق بين الفكر، وبين الأشخاص المتّصفين به، وهذا ما يؤثّر في الفهم، وفي النفس فيُترك ذلك الفكر لا لضعفه وإنّما لضعف الموصوفين به، ويستبدله المجتمع بشيء آخر ظنّاً منه بأنّه الأصلح لعصره، وبأنّه الأقرب إلى التطبيق.
وكذلك قد يؤدّي هذا الانزلاق إلى وصف فكر مُعيّن على أنّه سلبي أو لا يليق في هذا الزمن، ذلك ليس لأنّ أصحابه لا يعيشون في هذا العصر وحسب، بل ولأنّهم وضعوا أنفسهم فوق العصر، فأصبحوا عالة على الفكر بسبب خيانتهم للمُفكّر فيه (العصر).
علينا أن نعلم بأنّنا لا نشبه الغرب ولا الغرب يشبهنا، كما أنّنا لا نعيش ماضياً بكلّ أحداثه فيُتعبنا، بل نحن نعيش عصرنا، عصرٌ يحتاج إلى من يُفكّر له من أبناء المسلمين من دون تجريح للسّلف السابقين، ومن دون تفريط بالخلف اللاّحقين، لقد كثُر الحديث في الدّين وقلّ معه التماس الكتاب والسُّنّة، كثُر الكلام في طبيعة العلم، والعلماء، وقلّ طلب العلم في ذاته، زاد الانتصار لمفكّر على حساب آخر، ونقُص معه الانتصار للفكر والتفكير، زاد تكالبنا على سلفنا أو عكس ذلك من بكاء على ماضينا، فضيّعنا ما ضيّعنا في هذا الزمن الذي نعيش.. إنّنا لا نُفكّر للعصر بقدر ما نُفكّر لصالح الأنا، بقدر ما نريده من إشباع للرغبات، والشهوات، شهوة الشتيمة والتعدّي على الآخر، شهوة حبّ الظهور والشهرة، شهوة اتهام الآخر بما نقصّر نحن فيه، فكان من الواجب اتهام أنفسنا من باب أولى.
نحن نحتاج إلى التشبّع بالقيم، وإلى الإخلاص، وأولى تلك القيم التي وجب فيها الإخلاص هي تفعيل التفكير بما نحن فيه؛ لأنّ استيعابنا لما نعايشه، وفهمنا لواجبنا تجاه ما نعيشه، هو الذي يقودنا إلى تبديد همومنا، وحلّ مشكلاتنا، وخروجنا من الحالة التي نحن فيها من ضعف وهوان، ويؤسّس لمستقبل خير من الذي عاشرناه وألفناه؛ لأنّنا عندما لا نريد أن نفهم حقيقة ما يجري حولنا، فإنّنا في الحقيقة نريد أن نسقط العالم الذي صنعناه بداخلنا على العالم الحقيقي، فيخرج لنا العصر مشوّهاً، ومغلّفاً بالأنا، نراه كما نحب، ونفسّره كما نرغب، إنّ هذا ليس بتفكير وفكر بقدر ما هو صناعة للوهم.. وهْم يقودنا بدوره إلى وهْم آخر حتّى نبرّر ما نحن عليه، وما نحن فيه، وهْم يصوّغ لنا الصّراع مع الصديق، والتواصل مع العدو، بل واستحداث لتفسيرات وتطبيقات وممارسات لم نُسبق إليها في العالمين.
الواجب علينا هو التفكير للعصر، الذي يسبقه فهمه؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالتفكّر، والتدبّر، والنظر، ولكن كان ذلك بعدما رسخت في الأذهان مشاهد، وسياقات معيّنة رسمت لنا في صياغة رائعة صوراً كانت بمثابة الملاحظات التي تسبق التفكّر والنظر حتى يكون سويّاً سلساً، فالتفكير للعصر إذن، ينطلق من العصر ذاته، وذلك من خلال استيعابه وملاحظته، ثمّ يُتبع بفهمه، وتحليله، قبل أن تأتي الحلول، فالملاحظة والاستيعاب تحتاج إلى التأنّي، ورحابة صدر، أمّا الفهم والتحليل، فيحتاج إلى آليات، وإلى علم وحلم، أمّا العمليّة ككل، فهي تحتاج إلى الإخلاص، أمّا التسمّي بالألقاب، والسعي إليها فهو أساس الخراب الفكري، الذي أتبعه الخراب السلوكي؛ لأنّ سلوكيّاتنا وجب لها بأن تتبع تفكيرنا فتكون أفعالنا صادرة عن قيم بالضرورة، فليس لتفكيرنا أيّ معنى إذا أتبعناه بسلوكيّات سلبيّة.
التفكير للعصر، الذي يُتبع بقيم وسلوكيّات راقيّة، هو الذي يجعل من الإنسان مفكّراً، أمّا التسمّي بهكذا ألقاب التماساً لرغبات شخصيّة، فهو أساس خراب الإنسان، الذي يسبق خراب العمران.. والله أعلم.