د. محمود مسعود
ليس من شك في أن المسلم؛ أي مسلم، متوقع أن يكون إنساناً كاملَ الأهلية، كبير الهمة، عالي القيمة، لكن هناك من المسلمين من تنازلوا عن بعضٍ من إنسانيتهم؛ طمعاً في الخميصة، أو ركوناً إلى الدعة، وقد اثَّاقلَ بعضُهم إلى الأرض؛ هروباً من المسؤولية، أو تعليقاً لها في رقبة الآخرين، ثم غدت هذه الصورة من التكاسل والتولي هي صورة لمعظم المسلمين في عصرنا؛ حتى أصبح عامة المسلمين لا يقبلون من الإسلام ثلاثة أمور؛ مع أنه بغيرها تحل عروة الإسلام ورابطته دون أن يدروا: الشريعة، الخلافة، الجهاد.
فلا معنى للإسلام بغير هذه العرى الثلاث، إلا أن يصبح الإسلام مثل البوذية والكونفشيوسية والمزدكية؛ مجرد ديانة روحية تعين الإنسان بلا شك على العبور من صخب الحياة، إلى تأمل نفسي مفيد مؤقتاً، لكنها لا تعمل على رقي إنسانية هذا الإنسان؛ لذا احتاج أصحابها إلى أخلاق الغرب وثقافته؛ حتى تكتمل صورة الإنسان نسبياً لديهم.
فهل يُراد لنا أن نكمل إنسانيتنا من الغرب؛ بدولته القومية، وقانونه الروماني، ونظامه العسكري؟!
فلما وُجد من المسلمين من يفهم أن بغياب هذه الأمور يغيب الإسلام – وإن بقيت صورته – أضحى هذا المسلم الذي يفهم ذلك متطرفاً خارجياً، فقد قمت بنظرة لسبع عشرة قرية في محافظة قنا خلال شهر مايو 2012م، وجدت أن من يفهم هذه الأمور لا يتجاوز أصابع اليد والباقون لا يرفضونها، لكنهم لا يشعرون بغيابها، ولا يجدون فرقاً بين أن توجد أو لا توجد، خاصة أن من يطالب بها – فيما صور لهم إعلام “سايكس بيكون” – متطرفون إرهابيون.
في مثل هذه البيئة منذ ثمانية وخمسين عاماً ولد عصام دربالة، فقد شب بلا شك مثله مثل أقرانه على حب الإسلام، دون أن يعرف أن هذا الإسلام في الواقع مغيبة شريعته في دولاب مجلس النواب، ومنكس علم خلافته تحت أعلام القوميات العربية والتركية والفارسية والأردية وغيرها، وذرة سنامه لم تعد مجاهدة الأمة؛ بإقامة العدل وبسط رداء الخير على الإنسانية، بل أضحت جزئيات يقتل بعضها بعضاً؛ في العراق، وإيران، وفي سورية، ولبنان، والجزائر، والمغرب، والهند وباكستان وغيرها.
كبر الشاب وبلغ مبلغ الرجال وحلم مثل أي مسلم بسيط أن يُعاد للإسلام هيبته، وتُرفع رايته وتُحَكم شريعته، ليس له حلم أكثر من ذلك ولكونه إنساناً مملوءاً بالمشاعر والأحاسيس خرج يفتح فاهُ بما حلم؛ فوجد نفسه متطرفاً إرهابياً، قبل أن يسطر سطراً ضد دولة أو شعب، فهو مجرد طالب في الجامعة، ليس لديه إلا فمه وحماسة عباراته ولين كلماته، لكن أنى أن يُسْمعَ له ويأبه به، وهو الذي لم يكن ذا سلطان.
لو كانت دولة السادات – يرحمه الله – تعي متطلب هذا الشاب وفتحت له الحوار لربما أراحت واستراحت، فبينت جهدها المنقوص لتقنين الشريعة، وعملها المجزوء لوحدة الأمة، وهدفها المخبوء في إعداد العدة! ولربما أدرك الشاب أن الحماس مع الطواغيت لا يكفي في هذه المرحلة، فتركوه يربي ووعدوه بالنظر في أمره وأمر جماعته!
لكن دولة السادات – يرحمه الله – أبت أن تسمع صوتاً غير صوت مخبريها الأوغاد، وداخليتها اللئام، وقادتها السفهاء؛ فدخلت معركة مع جيل عصام دربالة، الشريف الطاهر، فقتلت منهم ما قتلت، ورد الشباب بما رد، وهو مخطئ بلا شك، كما نص الشيخ عصام دربالة نفسه عندما بلغ الكهولة، وما كان يجب أن تدفعهم الدولة إلى هذا لو كان اللئام بعيدين عن النظام، فكيف وهم سدنة النظام؟
فدخل الشاب عصام السجن بيد مقطوعة وآلام مكبوتة، وجروح في النفس أكبر، فعصام دربالة إنسان لا يريد قتلاً ولا سفكاً ولا يريد أذى لهرة نائمة، فما بالك بقتل شباب من هنا وجنود من هناك؟ حاول الشاب في السجن أن يكون حلقة حل وليس تأزم، لكن اللئام لم يتركوا له فرصة هو وإخوانه، فخمد صوت العقل وضجَّ صوت الرصاص؛ الدولة تصرخ: سنقطع الرقاب، والشباب: سنقيم دولة الإسلام!
آلام يدفعها جيل بأكمله، فلم تقطع الرقاب، ولم تقم دولة الإسلام، والشاب الإنسان يسكن زنزانة لا يتحمل العيش فيها جماد، فما بالك والسجين إنسان مسلم رقيق رفيق قليل الكلام كثير التفكير؟!
يذكر عنه إخوانه في السجن أنه كان لا يحسن النوم متألماً بآلام إخوانه ومن معهم بل وعائلاتهم، بل كان يتألم لطول سهر السجان المسكين المكلف بمراقبته فهو مضطر إلى السهر والسهد خوفاً من سياط الباشا الضابط الجلاد.
تنفست الدولة نسمة هواء صحيحة لمرة واحدة بعد بضع عشرة سنة، فأطلقت مبادرة كان عصام دربالة ينادي بها منذ بداية الأحداث؛ وهي: المصالحة، فتنفس عصام دربالة الصعداء! هذا طلبنا منذ البداية، ولم يستجب له أحد.
طلب عصام من إخوانه ألا يفوِّتوا الفرصة، فبعد سنوات من النقاش في دوائر اللئام وافقوا على المصالحة التي بادر بها عصام دربالة وإخوانه منذ سنوات، ومرت سنوات أخرى حتى وافق اللئام على خروج عصام دربالة من سجنه يجوب القرى والنجوع وهو المريض المنهك بسنوات السجن؛ ليقنع الشباب بالمبادرة فكتب كتاب “لا للتفجير”، وكتب بحثاً مطولاً عن “لا لقتل المتظاهرين السلميين”، وكان يرى أن التفجير والعبوات الناسفة محرمة شرعاً، ومجرَّمة قانوناً كما نقل عنه د. صابر حارص.
قد لا يعلم القارئ الكريم أن عصام دربالة كان يرفض قتل السادات، لكن الإعلام يروج لغير ذلك ليل نهار، يقول د. صابر: سألت الشيخ عصام عن مقتل الرئيس السادات فقال: إنه رجل دولة، وقد اعتذرت الجماعة عن مقتله، ونالت العقاب، رغم رفض مجلس شوراها لقتل السادات، وأنها أرسلت الشيخ أسامة حافظ لإبلاغ خالد الإسلامبولي بذلك قبل قتله!
ومع ذلك: فإن الرجل الإنسان يعترف بالخطأ، رغم أننا لو قسنا خطأ جماعة وليدة وشباب متحمس بدولة ذات أنواط وأنواق لقلنا: إن الخطأ خطأ الدولة التي لم تجلس مع أبنائها، بل عدتهم أعداءها؛ لمجرد صرخات قول، كان يمكن أن تكون نفحات خير على الأمة.
مر كل ذلك وجاءت الثورة، فمضى عصام دربالة يدعو لسلمية الثورة، والمحافظة على قيم الإسلام الراسخة، مهما قتل الظالمون، ومهما سفكوا، وتعالت فرحة الأمة الساكتة بظهور رئيس يصلي إماماً، ويدعو للإسلام، ولم يقل الرجل: سنقتل أحداً، أو سنحارب بلداً، فكل ما قاله: نريد أن نصنع غذاءنا ودواءنا وسلاحنا؛ فانقلب عليه اللئام.
فما كان عصام دربالة إلا محافظاً على بيعة أعطاها للرئيس الأسير، ولم يحمل سلاحاً، أو يفعل سوءاً، غير أنه كمسلم لم يستطع أن يخلع بيعة من رقبته، فكانت تلك جريرته الوحيدة، وتهمته الغريبة، ومن أجلها اقتيد إلى السجن، ولم يقدم لمحاكمة فليس له جريرة، بل كل أعدائه يمدحونه، ويقولون عنه: الرجل الرقيق الرفيق، وكل أحبائه يعرفون لين جانبه، ودماثة أخلاقه فلك الله يا رجل الإيمان وبطل الإسلام.
وفي أثناء الحبس الاحتياطي لهذا البطل: زاد المرض، فلا أحد يسمع، ولا دواء يجلب، فمات الرجل ظلماً رحمه الله، فكان موته علامةً فارقة في بيان ظلم الظالمين، حيث لو كان يحكم هو جماعته لقلنا: إنهم تخابروا مع “حماس”، أو مع غيرها، ولو حمل سلاحاً لقلنا: أُخذ بجريرته، فلماذا حيل بينه وبين الدواء، لأن مثل عصام دربالة لا يمكن أن يموت موت البعير، فللإسلام رجاله الذين اختارهم الله أن يحيوا حياة كريمة، ويموتوا موتة شريفة، تصنع في تربية الشباب ما لا تصنعه خطب الخطباء ولا جامعات الغرباء، هكذا مات عصام ودولة اللئام تظن أن سهام القدر أصابته وأخطأتها! فلا والله لم يصب عصام إلا بسهام ترفعه ولا تزال سهام الله نازلة على دولة اللئام حتى لا يبقى فيها ركن إلا وقد هدم على رؤوسهم، وإن غداً لناظره لقريب.