قامت الثورة السورية تطالب بالحرية والعدل وحقوق الإنسان، وهي ثورة شعبية عارمة، شاركت فيها مختلف فئات الشعب، وهذه من مفاخر هذه الثورة، فلم تكن ثورة حزب أو جماعة أو تيار، واستطاعت هذه الثورة – خصوصاً في بداياتها – أن تصنع وحدة وطنية رائعة في الإطار العام، وكان من شعاراتها «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد»؛ ذلك لأن النظام يسعى لتفتيت الناس وتمزيقهم، على أساس مكونات الشعب السوري الانتمائية المعروفة، وهذا خطر يهدد الثورة في مهدها، ومؤشر خطر على مستقبلها؛ لذا حرص الثوار على هذا الأمر، شعوراً منهم بأن الأمر إذا مضى والناس صف واحد، سيكون له أكبر الأثر، في نجاح الثورة، بينما لو حدث الشقاق والخلاف والفرقة، سيؤدي إلى ضياع البلد وفشل الثورة.
هذا الموضوع وهذه القضية تحتاج إلى وعي كبير من قيادات الثورة، وأبنائها بالمستويات كافة، كما أن الأمر يحتاج إلى برنامج عمل دقيق، بناء عليه يكون مسار هذه الثورة، ومن ذلك الحذر من الخوض في تفاصيل الأدلجة، وتقريرات مبسوط الأحكام، والاتفاق على القواسم المشتركة العامة، وعدم الخوض فيما يشق الصف، ويخرب وحدة الناس، ويجب التركيز على إسقاط النظام، ووحدة سورية، وغير ذلك من الأساسيات.
وفعلاً مضى الأمر على هذا المنال، وقدمت أوراق سياسية طيبة، تحمل في طياتها معالم الوعي والشعور بالمسؤولية، ومنها ورقة «ميثاق الشرف الثوري» الذي وقَّعت عليه مجموعة من الفصائل، ومنها «وثيقة المبادئ الخمسة» التي كانت برعاية كريمة من المجلس الإسلامي السوري، ووقَّعت عليها كثير من الفصائل والمجموعات والجماعات، كما شارك في التوقيع عليها مجموعة من الشخصيات الوطنية، التي لها مكانتها، وبين هذه وتلك كانت وثائق وأوراق توافق عليها سياسيون، كلها كانت تصب في المعنى الذي أشرنا إليه.
والثورة في نفس الوقت كانت تخرج من المساجد، وشعاراتها العامة إسلامية، وفي بطنها الأدعية المباركة «يا الله يا الله.. ما لنا غيرك يا الله»، كما كانت نداءاتها بناءة تدعو إلى التضحية والفداء «شهداء بالملايين.. على الجنة رايحين»، في جو متناغم رضي عنه الناس كافة، حتى إن رئيس المجلس الوطني جورج صبرا، يفخر بأن الذين كانوا يطالبون بالإفراج عنه هم رواد المساجد.
فشعبنا السوري معروف بهويته الإسلامية الأصيلة، وبمرجعيته الشرعية المتينة، القائمة على الفطرة، ونبذ الغلو (التطرف)، فجموع الشعب تؤمن بالتعايش ومارسته مئات السنين، وشعارها استئناف الحياة على معاني الحرية والكرامة، وحقوق الإنسان، وتؤكد قيمة العدل بين الناس، وتندد بالظلم والظالمين، مهما كان انتماؤهم، أو تلونت مشاربهم، إنه الإسلام، بفقهه السياسي المرن، وسياسته الشرعية، التي تقوم على جلب المنافع، ودرء المفاسد، وتحقيق العدل بين الناس، فقه الرشد والوسطية، ونبذ الغلو.
وفي زحمة الحدث ظهرت هنا وهناك، نتوءات خطر، تؤكد غير هذا المعنى، وتحاول المضي بالناس والثورة إلى مربعات بعيدة عن الرشد، وخالية من الحكمة، وتريد سوق الثورة على مشتهاها، في اليمين أو اليسار، وهذا أمر غير مقبول، ولعل بذور ذلك بدأت في بعض المؤتمرات الباكرة.
وكان نصيبها الرد، وحاصرها المخلصون من أبناء هذا الشعب الغيور الميمون.
واليوم تأتي هذه المسألة، ولكن بثوب جديد قديم، وبلغة مرفوضة، وهي استفزاز لمشاعر ملايين المسلمين في سورية، لأنها تمس هوية الأمة، وتحاول التسلل إلى دوائر خصوصيتها، وهذا الأمر لا يملكه أحد من الناس كائناً من كان، وخصوصاً إذا جاء من جهة خارجية، ليس لها علاقة بالبلد وأهله، وعقيدته وتاريخه، إنها الخوض في شؤون الآخرين بدون استئذان ولا «إحم ولا دستور»، فهذا عدوان صارخ، واستهتار بالناس.
إن من أبسط المبادئ العالمية احترام خصوصية الناس، وهذا الأمر يشمل كل الناس «لا إكراه في الدين»، فما لنا نرى الذين يدعون الحرية وحقوق الإنسان يتطالون على الناس في سورية الجريحة، ويحاولون فرض نموذجهم على أبناء هذا الشعب، وعلى مسار ثورته، وعلى مستقبل البلد وشكل التكوين القادم.
اتركوا الأمور لأبناء الشعب السوري، من العلماء والقادة والثوريين والسياسيين، هم من يقرر المعاني التي يريدونها في شأن الحكم والسلطة وإدارة البلد، وتحديد الهوية.
وهذا كله يلفت أنظارنا إلى أهمية الموضوع، وأن على أبناء الشعب السوري وقواه الثورية أن تجتمع كلمتهم على رفض فرض النموذج، وتحديد الهوية.
ديننا بفهم العلماء العدول الثقات سلفاً وخلفاً أغلى ما نملك، ولأجله يرخص كل شيء.