أريان بونزون
من أفضل من طارق رمضان ليمثل المفكر الإسلامي المعاصر؟ أعماله ترجمت لعشرات اللغات، وصنفته مجلة “التايم” الأمريكية من بين أكثر مائة شخصية مؤثرة في العالم لسنة 2004م، من بعدها صنفته العديد من المجلات الدولية الأخرى.
طارق رمضان الذي يعيش الآن في لندن، يدير مركزاً للبحوث الإسلامية في الدوحة، ودرّس بالجامعة الكاثوليكية الأمريكية نوتردام بمنصب أستاذ زائر، كما درّس في عديد الدول الأخرى، منها دول آسيوية.
ومع ذلك، يبقى طارق رمضان قصة فرنسية، فمسار هذا المفكر الإسلامي مر في أغلبه من فرنسا، فهو يمثل نموذج للمثقف الفرنسي، الذي يشارك غيره أفكاره، ويلقى حظوة بين وسائل الإعلام، حتى أصبح يطلق عليه “برنارد هنري ليفي المسلمين”.
تبدو على الرجل علامات المرونة واليقظة، ينتقي ملابسه بعناية، بنفس الطريقة التي حيكت بها، ومن أجود الأنواع القماش يختارها، ولا يرتدي أبداً ربطة عنق، كبرنارد هنري ليفي، قد تبدو عليه علامات التصنع، لكنه ليس من رجال الأعمال أو السياسيين، كما بعض الشعر قد يظهر من وراء صلعه، ليوهم أنه صلع حديث.
طارق رمضان البالغ من العمر 53 سنة، يتحدث الفرنسية بطلاقة، لكن لا تخفى لهجته السويسرية، فهو آخر العنقود في عائلة مصرية من ستة إخوة، ولد في سويسرا سنة 1962 وكبر هناك.
لجأ أبواه إلى سويسرا، إثر اغتيال الملك فاروق الأول لحسن البنا؛ مؤسس حركة الإخوان المسلمين سنة 1949م، وجدّ طارق رمضان من أمه، فكان طارق يتحدث أحياناً عن الموروث الروحي؛ الذي يصفه بقِدر الكاهن الذي وقع فيه أوبيلكس، فيقول: “أنا ولدت في القِدر” واصفاً شدّة ارتباطه الفكري بجدّه.
حفيد حسن البنا يدرّس الأدب الفرنسي في جامعة جنيف، من بين كتّابه المفضلين آرثر ريمبو، خاصة تلك الكتب المهتمة بالإسلام، والتي قد يقتبس منها تغريدات على “تويتر”: من قصائد، بريل وبربارا.
طارق رمضان رغم التزاماته المهنية، ملتزم بمساعدة المهمشين، يتحدث عنه صديقه علي راهني، الذي يعمل أستاذاً متخصصاً: أول ما شدّ انتباهي حين قابلت طارق رمضان، هو الطريقة التي كان يتحدث بها مع تلامذته، فكان ينتقي كلماته بشدّة، فكانت تأتي في مكانها.
ستيفان لاثيون، الأستاذ السويسري، عرف طارق رمضان منذ بداياته، هذا المختص في الإسلام الأوروبي منذ عشرين سنة، قال: لم يكن أحد يتوقع أن طارق يطمح لأن يكون المصلح الإسلامي للقرن الحادي والعشرين، كما كان جدّه في القرن العشرين.
تزوج طارق رمضان من فتاة فرنسية، كانت قد أسلمت قبل زواجهما، وأنجب منها أربعة أطفال؛ وبالتالي يعتبر طارق عائلته فرنسية، رغم أنه قال مرة: لم أكن أرغب يوماً في حمل الجنسية الفرنسية، حتى لا أصبح ممثلاً عن الإسلام من وجهة نظر فرنسية.
في سنة 1991م، سافر طارق وعائلته إلى القاهرة، أين التقى أوّل مرة بفرنسوا بيرجو، المختص في دراسة الإسلام ومؤلف كتاب “الإسلام في عصر تنظيم القاعدة”، والذي أصبح فيما بعد صديقاً له، قال فرنسوا: طارق جاء لمصر، حتى يتعلم أولاده العربية، وحتى يتعلم هو الفقه الإسلامي.
وأضاف أيضاً: طارق عاد لمصر ليكتشف المناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي نشأ فيه جده حسن البنا، مثل هذا النوع من العودة، صعب على المسلمين الغربيين، أما بالنسبة لحفيد حسن البنا فلم يكن بتلك الصعوبة.
حب سياسي من أول نظرة
إثر عودته من مصر أواخر سنة 1992م، انخرط طارق بكل وضوح في الدفاع عن مشكلات مسلمي أوروبا، وفي سنة 1993م احتفلت سويسرا بمرور 300 سنة على ميلاد المفكر الفرنسي فولتير، الذي عاش في فيرني لما يقرب من 20 عاماً، حيث تم إخراج مسرحية “التعصب” أو بما يعرف بمسرحية “محمد النبي”، التي أثارت عواطف المسلمين؛ لأن العرض يحتوي صوراً دموية وعنيفة عن النبي محمد.
مهما كان مستوى الأدب الفرنسي راقياً، إلا أن طارق رمضان كان يرفض مثل هذه المواضيع، وكانت حجته دائماً: باسم حرية التعبير، كل شيء أصبح مباحاً، كأن تجرح فئة معينة من السكان بسبب اعتقادهم، في الوقت الذي يظهر فيه مسلمو البوسنة في قلب أوروبا كأعداء جدد!
قبل 12 سنة كان هذا هو الجدل الذي مزّق المجتمع الفرنسي، خاصة بعد نشر “شارلي إبدو” للرسومات الكاريكاتيرية الساخرة من النبي محمد، من ثم قتل معظم الرسامين في مقر صحيفة “شارلي إبدو” في مطلع سنة 2015م.
في التسعينيات أصبحت فرنسا أرضاً خصبة لطارق رمضان لنشر أفكاره، فمدينة ليون تبعد مقدار ساعة بالسيارة عن جنيف، ليون التي ولد فيها “اتحاد الشباب المسلم” سنة 1987م بعد المسيرة المناهضة للعنصرية والداعية للاعتراف بحقوق المهاجرين، والتي عرفت بمسيرة “الزبدة” وكان ذلك سنة 1983م.
يقول عبدالعزيز شعانبي، أحد مؤسسي الاتحاد: كان عمر الاتحاد 6 سنوات حينما التحق به طارق رمضان سنة 1993م، ما أردناه هو بناء شكل للإسلام يتناسب وفرنسا، بدأنا بالقيام بأنشطتنا، دروسنا ومؤتمراتنا بالفرنسية، عرض علينا مسجد تحت مراقبة السلطات المغربية، لكننا رفضنا، طوّرنا منظومة المتابعة المدرسية، والتي استفاد منها العديد من الخريجين، باختصار بدأنا نشاطنا.
شباب ليون المنخرط في “اتحاد الشباب المسلم” كانت عنده التجربة والخبرة لكن تنقصه المعنويات والعقيدة، وهذا ما أضافه طارق رمضان، ما كوّن شبه اتفاق بين الطرفين، اتفاق أخذ وعطاء.
ويواصل عبدالعزيز كلامه فيقول: كان حباً سياسياً من أول نظرة، فقد كان طارق من جيلنا، يتحدث الفرنسية بطلاقة، كانت له عديد المميزات فعلاً، أخيراً وجدنا من يوصل صوتنا لصناع الرأي والسياسيين، شخص قادر على إضافة الكلمات لأفعالنا، فنظمنا له بضعة وعشرين مؤتمراً، للتعريف بأنفسنا.
وقد صرّح عبدالعزيز بأنه ابتعد مسافة من طارق رمضان، حيث قال: حينها لم تكن قد تشكّلت عند طارق “الأنا” بهذا الحجم الضخم، حتى أنّك الآن إذا لمست إحدى شعرات رأسه، ربما تكون قد كفرت في نظر جمهوره.
الإمام والملتزم.. ولكن صاحب الخطاب الإسلامي المعتدل
طارق رمضان استخدم “البيداجوجيا” حتى يحيي في المغاربة الفرنسيين قيمتهم وأهميتهم وثقتهم بأنفسهم، خاصة وأن المجتمع أقصاهم، فحفّز فيهم الثقة بدينهم وبحقهم في المطالبة بالتمسك بإسلامهم في فرنسا، ذلك أن المستقبل للإسلام، ويجب عليهم أن يوفّقوا بين إسلامهم ومواطنتهم.
هذا حرك جمود هؤلاء الشباب، حيث يصف الفيلسوف جوال رومان ما لاحظه عن القس الكاثوليكي كريستيان ديلورم، والذي كان قد سبق طارق في دعوة هؤلاء الشباب للنصرانية، فقال: أعتقد أن أول حراك قام به هؤلاء المسلمون كان مزلزلاً بالنسبة لديلورم، والذي لم يتوقع حراكاً دينياً بهذا الشكل، تطور ملحوظ نسبه البعض لعوامل خارجية، لكن ما لبث أن انتشر اسم طارق رمضان.
يواصل الفيلسوف جوال رومان، في كتابه “هم والآخرون” الذي تحدث عن تلك المعارضة الناشئة؛ هم: أي الشباب المسلم المهاجر، والآخرون؛ هم الغربيون، فيقول: ديلورم أعطى لنفسه الحق للدفاع عنّا، في محاكمته لهؤلاء الشباب، لكن طارق رمضان جاء وبعثر حساباته.
في سنة 1994م، ينشر طارق رمضان كتابه “المسلمون في العلمانية”، ليظهر في أكتوبر من نفس السنة في برنامج “لا مارش دي سياكل”، حيث قدمه جون ماري كافاد على أنه إمام ملتزم ولكن صاحب خطاب إسلامي معتدل.
كما يقول الأستاذ المختص علي راهني: كانت لحظات عظيمة حينما تحدث طارق رمضان، في الواقع كنّا ننظر إليه على أنه فرنسي، لإتقانه الفرنسية، أخيراً وجدنا من يمثلنا، فهو ليس غريباً عنّا.
كما يقول الفنان والكاتب فريد عبدالحكيم، في كتابه “لماذا توقفت عن أن أكون إسلامياً؟”، والذي قدم فيه رؤية من الداخل عن الإخوان المسلمين في فرنسا: كيف لا نندهش بالشاب، لغته الفرنسية لا تشوبها شائبة، كان ثورة حقيقية بالنسبة لنا، خاصة عندما علمت أنه حفيد حسن البنا.
ومنذ ذلك الوقت والإذاعات والقنوات التلفازية تستضيف طارق رمضان من حين لآخر، خلال مؤتمراته في فرنسا وأوروبا، كان يوجه خطابه الجذاب في عدة اتجاهات؛ الأمة الإسلامية ومكوناتها والمجتمع الوطني الفرنسي.
كان له صدى حتى في أوساط اليسار واليسار المتطرف، فبحثوا في سجله الشخصي والسياسي، وشيئاً فشيئاً أصبح هذا الفصيح ذو الشخصية الجذابة، لا تنتهي محاضراته إلا بالتصفيق، وأصبح مرجعاً مهماً لمسلمي فرنسا، الذين التفوا حوله طالبين المشورة حتى في أمورهم الشخصية أحياناً.
معارضة باسكوا وشوفانومون
في سنة 1995م، قام وزير الداخلية الفرنسي في ذلك الوقت، شارل باسكوا بإصدار قرار بمنع طارق رمضان من دخول الأراضي الفرنسية، بحجة أن طارق “يمثّل خطراً على النظام العام”، ولكن ما لبثت أن خرجت مظاهرات مؤيدة لحفيد حسن البنا، في 15 منطقة في باريس، ضمّت جمعيات إسلامية وغير إسلامية؛ مثل رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان ورابطة التعليم الماسونية بالإضافة إلى أمين الأسقفية للعلاقات مع الإسلام.
كانت القاعة مزدحمة، حين تحدث الأمين السابق لرابطة التعليم ميشال مورينو، فقال: الرابطة التي تدافع عن العلمانية منذ الثمانينيات، تساءلت عن مكانة الإسلام في فرنسا وفق قانون 1905م، ثم تحدثتُ سراً للمقربين من طارق وقلت لهم: إني أريد مقابلته، ثم بعد بضعة أشهر، حتى رفع المنع عن طارق رمضان.
وقد أتيحت الفرصة لميشال مورينو مقابلة طارق رمضان، رجل المرحلة كما يعتقد، وجهاً لوجه، فقال يصف لقاءهما: كان أمامي رجل عملي، يفكر بطريقة تكييف النصوص الإسلامية والحداثة السياسية الغربية مع بعض، محترماً العلمانية الفرنسية، معتبراً أنها تأخذ في شكلها خصائص الإسلام، كان الرجل الذي نحتاج إليه لبناء مجلس مشترك للعلمانية والإسلام.
كما قال الأمين السابق لرابطة التعليم الوطنية بدا لي صاحب رؤية إستراتيجية سياسية أكثر منها دينية، فسرعان ما رفعت الكلفة بيننا، فميشال مورينو ينتمي لفترة كانت الكُلفة في التخاطب أمراً اعتيادياً.
تشكّل المجلس المشترك للعلمانية والإسلام في نصفه من ممثلين للإسلام من مختلف تيارات ذلك الوقت، أما النصف الآخر فكان فيه ممثلون متدينون كاثوليك وبروتستانت ويهود وأيضاً مفكرون وشخصيات من المجتمع المدني وشخصيات ملحدة.
انعقد هذا المجلس خلال ثلاث سنوات من سنة 1997 إلى 2000م، حيث يسترجع علي راهني تلك الفترة بنوع من الحنين، فيقول: كانت أجمل الفترات، كنّا نحضر تلك الجلسات والمناقشات؛ تعلمنا فيها الكثير من جون بوبيرو، وميشال مورينو.
غير أن هذه المبادرة لم تعجب البعض، حيث استدعى مكتب وزير الداخلية، جون بيار شوفانومون وقتها، ميشال مورينو وحذّره من الخطاب المزدوج الذي يتبناه طارق رمضان.
ولكن سرعان ما انكشفت الحقيقة، فالمجلس برمّته هو ما يزعج السلطات وليس طارق فقط، حيث صرّح ميشال بما فهمه من ديدياي موتشان؛ المكلف من قبل مكتب وزير الداخلية، فقال: الحوار بين الأديان مسؤولية الدولة، وعلى المجتمع المدني عدم طرح هذه المواضيع.
وأنهيت حديثي بسؤال: هل طارق رمضان إرهابي؟
يقول ميشال مورينو: كنّا في اجتماع المجلس، في بلاس بوفو، مختلفين حول بناء موقف واضح من طارق رمضان، حيث أعرب المختص في دراسة الإسلام برونو إسيان عن أهمية أن يؤدي طارق رمضان دوراً وطنياً واضحاً، في الوقت الذي عبّرت فيه المخابرات العامة، التي كانت تتابع المجلس خطوة بخطوة عبر أحد الحضور التابع لها، رفضها لهذا المقترح، فأنهيت حديثي بسؤال: هل طارق رمضان إرهابي؟ فأجابني ممثل المخابرات: ليس عندنا أي دليل إدانة، لكن حوله هالة من الشباب الرافض لاندماج الإسلام في المجتمع الفرنسي، فموقفهم واضح.
لكن الأمين السابق لرابطة التعليم اعتبر أن طارق رمضان مستوعب تماماً للفلسفة السياسية العلمانية؛ فقانون التعبير، قانون 1905، تجتمع فيه حرية الوعي الفردي وحرية التعبد الجماعي، فهذه الشكوك لا معنى لها بالنسبة لميشال مورينو، فهي لا تستند لأي دليل حقيقي.
ميشال الذي استدعى طارق رمضان عدّة مرّات ليحضر المحافل الماسونية قال: لم نكن نناقش الأيديولوجيا في مجلسنا، بل نناقش قيم الجمهورية، كانت عندي ثقة كبيرة بما كنّا نقوم به مع بعض.
كما قال ميشال جومينو: لكن مع القيادة الجديدة للمجلس، حيث طغت حالة الشك، أعرب جاكلين كوستا لاسك عن رغبته في وقف الحوار مع طارق رمضان، ذلك أنها لا تقدر قيمة هذا الحوار، وأوقفت أنشطة المجلس المتعلقة بالإسلام والعلمانية.
وأضاف قائلاً: كنا نلعب ورقة طارق رمضان آملين في أن نغير العقليات حول الإسلام، لكننا أخفقنا حتى في تهيئة الظروف لحوار مسؤول وواضح.
أما بالنسبة لطارق رمضان، فقد كانت التجربة مثمرة حيث قال: تعلمت الكثير وفهمت الكثير من الأمور خلال الثلاث سنوات، لكن هذا لم يضفي شيئاً على الصعيد السياسي، بالرغم من أن البرلمان الفرنسي قد سمح بارتداء الحجاب في المدارس، ذلك أن مجلس العلمانية والإسلام قد قضى جزءاً من عمله على هذا القانون، والذي اعتبر أنه له نتائج عكسية على العلمانية.
رغم مرور 15 سنة، لم يقابل فيها ميشال طارق رمضان إلا نادراً، فإنه مازال يدافع عن فكرة أن المسؤولين السياسيين في ذلك الوقت قد أخطؤوا حين أوقفوا إستراتيجيته السياسية، في محاولة للخروج من حالة الرفض للآخر دون التخلي على الهوية العلمانية.
في المرة الأخيرة التي تقابل فيها الرجلان؛ طارق رمضان وميشال مورينو، كانت برفقة طارق زوجته المحجبة، فقال ميشال: لقد أبهرني أن أراها بالحجاب في الوقت الذي يحمل طارق خطاب الحداثة السياسية، فوجهت له سؤال: ألا ترى أن الحجاب من المسائل القديمة، كمسألة علاج الكهنة عندنا، نحن قد تجاوزنها؟!
برنارد جودار، المكلف السابق بمهمة بوزارة الداخلية متعلقة بالمسلمين ومؤلف كتاب “قضية المسلمين بفرنسا”، قال: في التسعينيات كان لطارق رمضان دور مهم وإيجابي، لكن شهر العسل مع نسبة مهمة من المجتمع الفرنسي قد انتهت.
ماذا حصل؟ هل خُدع أنصار طارق رمضان به؟ هل هو من تغيير؟ أم أن المجتمع المسلم بفرنسا قد تغيير؟
الرابط:
http://www.slate.fr/story/111203/tariq-ramadan-enquete