من أهم التطورات التي صاحبت اللغة العربية وأثّرت فيها التطورات الحضارية التي ظهرت في العصرين الأموي والعباسي، حيث استجابت اللغة لهذا التطور، وظهرت فيها الأنساق الزخرفية والأسلوبية، والأبنية الصياغية الدالة على التعظيم والتبجيل، وتعبير الاحتشام والتواضع في مقام السلطة، من ذلك إسناد الشيء إلى الحضرة والجناب والمجلس، ثم استحداث الألقاب والنعوت للخلفاء والوزراء والكتّاب والقواد، ثم استحداث كتب العهود والرسائل والتوقيعات.
وربما كان من أثر هذا التجاوب مع المستجدات الحضارية ظهور قدرة العربية على نقل العلوم وترجمتها وتدوينها ونشرها، وعندما أنشأ أبو جعفر المنصور مدارس الطب والشريعة، استقدم لها الخبراء من الدول المجاورة، وعلى وجه خاص شجع الترجمة التي لاحقت علوم الطب والفلك والنجوم والرياضيات والمنطق والأدب.
وامتد التجاوب الحضاري إلى بناء الدولة، ففي عهد عبدالملك بن مروان تم تعريب الدواوين، وتطلب ذلك جهداً كبيراً وواسعاً شمل كل أنحاء الدولة العربية، وهي تضم دولاً كانت دواوينها بلغتها الأصلية، ويطول بنا الأمر لو رحنا نفصل القول في تشكيل هذه الدواوين وإجراءاتها التي تعتمد على قدرة العربية على استيعاب حضارات الدول التي فتحتها، ومع الفتح دخلت اللغة العربية في منافسة مع لغات تلك الدول، وبخاصة اللغات العريقة، مثل: الفارسية والسريانية والقبطية، لكن الغلبة كانت للعربية.
معنى هذا أن اللغة العربية كانت لغة مستقبلة ومرسلة على صعيد واحد، لكنها في هذا وذاك ظلت واعية بطبيعتها العربية، وواعية بالمرجعية الثقافية التي تختزنها، وهي مرجعية تعطي خصوصية فارقة للغة وللمتكلمين بها من أبناء العروبة والإسلام.
وهنا نستحضر المقولة المغلوطة عن “تطوير اللغة العربية”، لنؤكد أن ما تابعناه ليس “تطويراً”، إنما هو “تطور” يتجاوب مع التطورات الحضارية والثقافية التي واجهت اللغة في موطنها، وفي الدول التي فتحتها.
ومن اللافت أن مقولة “التطوير” كانت تنحصر أحياناً في “تطوير النحو”، فظهرت دعوات تدعو إلى “التيسير”، ومن يتابع تاريخ هذا العلم سوف يقرأ عن المحاولات الأولى للتيسير في القديم والحديث، وأنها كانت مصاحبة للدراسات النحوية، ويمكن أن نتابع هذه العملية التوفيقية عند واحد من أهم اللغويين القدامى هو ابن جنّي في كتابه «اللمع» الذي وصفه صاحبه بـ”اللطف”؛ إشارة إلى الهدف الذي يسعى إليه، وهو «الإجمال والوضوح والتيسير».
وفي هذا السياق، يأتي كتاب ابن مضاء القرطبي «الرد على النحاة»، وفي العصر الحديث تتابعت كتب التيسير، منها كتاب الشيخ أمين الخولي «مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب»، وكتاب «النحو الوافي» لعباس حسن، و«إحياء النحو» لمصطفى إبراهيم، و«في النحو العربي.. نقد وتوجيه» للدكتور مهدي المخزومي، و«النحو المصفى» للدكتور محمد عيد، وغيرها من الكتب التي ظهرت في العالم العربي.
لكن الذي أريد الوصول إليه أن كل هؤلاء الباحثين لم يقولوا: إنهم يطورون النحو، وإنما ييسرونه، وهكذا اللغة، لا ينطبق عليها مقولة التطوير، وإنما ينطبق عليها مقولة التطور، والنظر إلى النحو العربي في الدرس الحديث يُلحظ معه أن عملية التيسير تكاد تتم تلقائياً، ومن ثم لاحظنا غياب بعض أبواب النحو، وعندما تُذكر، تذكر بوصفها واقعة لغوية تاريخية في مسيرة النحو العربي، إذ غاب عن الدرس الحديث أبواب مثل: التنازع – الاشتغال – الإغراء والتحذير – حبذا ولا حبذا – الترخيم، وانحصرت دراسة مثل هذه الأبواب في المتخصصين بوصفها أبواباً تراثية كانت لها صيغها المحفوظة في الذاكرة العربية، وهنا أستعيد مقولة أبو عمرو بن العلاء التي كثيراً ما أرددها: إن جملة هذا العالم اللغوي صريحة في أن اللغة تتطور مصاحبة للتطور الحضاري والثقافي، تتطور في مفرداتها، وفي تراكيبها، وفي أبنيتها الصرفية، ومن ثم امتلكت القدرة على التعبير عن كل مستجدات الحضارة في كل أزمنتها المتتابعة، وما زالت تؤدي مهمتها بكفاءة كبيرة، وما أروع حافظ إبراهيم عندما عبر عن هذا المعنى في قصيدته “اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها” وفيها يقول:
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغايةً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ؟!
المصدر: مجلة “الدوحة”