قد تختلط الأفهام وتتعدد الرؤى في كل خروج على المألوف المعتاد المقدس مع الزمن، والذي قد يستحق التقدير في حينه ولا يستحقه في وقت آخر، ولكن المألوف متمكن في النفوس حتى أقسم الله بهذا المألوف بقوله: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ {2}) (قريش).
المعتاد المتداول حتى مع تكراره يصبح جزءاً من الشخصية، ليظن الإنسان أنه لا يمكن أن يستغني عما ألف على الإطلاق، وقد يكون مصادماً للواقع والحقيقة والمعقل والمنطق.
قد تجد بعض كبار العلماء والمخترعين والمكتشفين والذين يحملون الشهادات العلمية العليا في بعض بلدان العالم يقفون تذللاً وخشوعاً أمام شمعة أو فأر أو نملة أو صنم يبكون أمامه، وقد تجد من هؤلاء من فجر الذرة أو برع في علم الحاسوب وتجد في العديد من الدول الصناعية الآسيوية الكثير من هذه الحالات.
لقد أكثر القرآن المكي من: “أفلا ينظرون إلى الإبل”، “أفلا يتدبرون القرآن”، “قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين”.
وعاب عليهم بقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا {24}) (محمد)، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {64}) (النمل)، وقد وصفهم القرآن الكريم بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22}) (الزخرف)، (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الجاثية:23)، (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ {5}) (الطارق).
وقد عاتب الإنسان وهزه من الأعماق: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ {6} الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ {7}) (الانفطار).
أرأيت إلى الذين يألفون أعمالهم الخاصة ويفنون أعمارهم فيها، لا تطوير لديهم إلا مضاعفة الجهد الذي يبذلوه وزيادة ساعات العمل؟
التجديد سنة الحياة وضرورة الاستمرار والبقاء بفعالية، والتجديد معناه ربما الانقلاب على المألوف تماماً في مجالات معينة.
والتجديد حالة القمر على مدى ثلاثين ليلة والفصول الأربعة، وتبدل الليل والنهار، والإنبات والإزهار والجفاف، وتجديد أوراق الشجر، ولو قطعت شجرة لوجدت أنها ستنبت عشرات الفروع من جديد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: “يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها” (رواه أبو داود).
وقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن المسألة الواحدة بإجابات عديدة متباينة تبعاً للزمان والمكان وحال السائل والمسؤول عنه، سئل عن أعظم الجهاد، وأعظم القربات، وأنواع البر، وسئل عن الساعة وهكذا.. فأجاب السائل بما يراه، مخالفاً لغيره، فهل يختلط على المتعجلين اليوم فعله صلى الله عليه وسلم.
وقد أفتى الفقهاء بمقتضى الحال والزمان والظروف بما يتسع له الفقه الصحيح، فهذا الشافعي له مذهبان فقهيان في الشام وفي مصر، ولم ينكر عليه عاقل فعله.
لقد صاح أبو جهل قبل غزوة بدر داعياً ربه: “اللهم اقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يُعرف، فأحِنْه الغداة”، فهو يرى أن الانتقال إلى مجتمع جديد نظيف بأفكاره وممارسته قطيعة رحم، وأن الإتيان بجديد لم يعرفه الآباء والأجداد (آتانا بما لا يعرف) جريمة تستحق التدمير، والمتوقع دائماً محاربة الجديد حتى في العادات والتقاليد.
حدثني تميم بن عقيلان: قال: كنت طفلاً مع والدي أحضر معه جلسات الذكر، وأسمع وأرى بأم عيني أشياء كثيرة ولا أنكرها بل أقلدها، وكانوا يتندرون بقدراتي في ذلك، ولم أر فيها مؤاخذة ولا خطأ على الإطلاق، بل أراها عين الصواب، وفي يوم تأخر شيخنا عن صلاة العيد وقد تجمع الناس بأعداد كبيرة ولم يحضر الشيخ (العلامة) فأشار إليَّ البعض لأصلي وأخطب العيد، ولما ارتقيت المنبر سمعت صوتاً يقترب من بعيد حتى إذا دنا أخذ يردد من هذا الحمار الذي اعتلى المنبر؟ وأنزلني وخطب، فكانت صدمة لي مكنتني من أن أرى النور والحياة والأشياء على حقيقتها، فلمت نفسي وعاتبتها أين كنت؟ هل غاب عقلي؟ وكيف صدقت الأوهام؟ أرأيتم إلى عمر بن الخطاب الذي كان يسترجع عبث الجاهلية حيث سئل: ألم تكن لكم عقول؟ قال: بلى، ولكن لم تكن لنا أفهام.