انفعل وعلا صوته بين أصدقائه بعد أن اجتمع الجميع حوله وهو الطالب الشاب الهادئ الطبع، والشخصية الودودة، فتعجب الجميع من وصوله لهذه الحالة، وأشفقوا عليه بشدة محاولين تهدئته، وأجلسوه أمامي على الكرسي في غرفتي في المدرسة، هدَّؤوا من روعة ببعض الكلمات الخفيفة المازحة وتركوه.
سألته عن حاله: كيف حالك الآن؟
قال بعد شهيق عميق: الحمد لله.
قلت: هل تريد أن نتحادث قليلاً، أم أتركك الآن؟
قال: إن كان الكلام عما حدث فلا.. أما غير هذا فلا مانع.
قلت: على الإطلاق، أريد أن أستفيد منك وأنت الطالب المثالي الطبع والخلق والعلم في بعض الأمور.
تطلع إليَّ أساخرة أنا أم جادة أم ماذا؟
قلت: أتتعجب؟
قال: نعم.
قلت: أتظنون أيها الشباب أننا نستخف بكم سناً وفهماً وأن الأكبر هو الأكثر وعياً ولا يعلو عليه أحد؟!
قال مسرعاً: هكذا أجيال الآباء توهمنا بهذا، ويسجلون ذلك في موسوعة «جينس» في عدد المرات تكراراً، في كل موقف ومناسبة لا يتوارون عن ذكرها وعلى الملأ؛ «نحن نفهم عنكم.. اسمع كلامي.. أنا أعرف أكثر منك… وهكذا».
قلت: لن أبرر لهم عدد المرات، لكن أبرر النية والدافع.
قال: لا تفرق كثيراً.
قلت: لن أناقشك أيضاً في أن الكثير منا يخطئ الوسيلة، ولكن في بعض الأحوال قد تشفع له الغاية والنية، وأحياناً أخرى قد تؤدي إلى كوارث.
ولكن دعني أسالك وأستفد منك: هل لا يستطيع الشباب النفاذ إلى نوايا الكبار بالخوف عليهم وحب المصلحة لهم؟
قال: نحن لا نستطيع اختراق ما هو مخترق أصلاً!
قلت: ماذا تقصد؟
قال: نواياهم مخترقة بحب السيطرة والتملك وفرض الرأي، وفرضية أن سنهم وأعمارهم تمنحهم صك الصواب الدائم في كل ما يتخذونه وعدم الخطأ أبداً.
قلت: عندما تكبر كيف ستتعامل مع أبنائك والشباب عموماً في العمل وغيره؟
صمت قليلاً متأملاً: أعتقد أن الجدية والاهتمام والإنصاف ثلاثي مهم جداً جداً في التعامل مع الشباب.
قلت: هل من تفصيل أكثر؟
قال: الإنصاف أهم وأول الأشياء التي تفتح لك القلوب جميعها خاصة مع الشباب، وأن تحق الحق ولو على نفسك وذويك، لا تحابي أحداً على أحد، وقتها سآمن لك فيما تقول وفيما تصدر من أحكام عليَّ وعلى غيري؛ لأني أرى فيك الإنصاف والعدل مهما كان الأشخاص والأوقات والمواقف.
قلت: صدقت، وماذا بعد؟
قال: الجدية أن تتعامل معي بحزم في الأمور وليس استخفافاً بي وبخبرتي القليلة مقارنة بخبرتكم، وهذا ما نشعر به دائماً معكم، فبالجدية في الالتزام بما وعدتني واتفقنا عليه أكون هيناً ليناً؛ فلا مراوغة ولا مماطلة.
قلت: وماذا عن الاهتمام؟
قال: لكل منا مدخل لشخصيته، نابع من نوع الاهتمام الذي يريده.
قلت: كلنا يحب الاهتمام، من منا لا يريده؟
قال: الاهتمام أنواع؛ كأن تهتم بالسؤال عني والوقوف في الأزمات والملمات، وتهتم بآخرين؛ بهدية أو بالمواسم المعنوية والشخصية لديهم، وآخرون تهتم بمستقبلهم ومساعدتهم على تطوير ذواتهم، وكل هذا يندرج تحت الاهتمام.
بعد هذا الثلاثي حتماً سأظل طوع أمرك، فأنت تهتم بما أحب وما أرغب، وتكون جاداً حازماً في وعودك، منصفاً في المواقف، لا أظن أن أحداً يقف ضدكم بعد هذا.
قلت: ألم أقل لك: إنني أسعى للاستفادة منك؟
قال: بل نحن من نسعى لكسب الخبرات من الآخرين، لكن لا تفرض علينا فرضاً، لا تنزل علينا من السماء معلبة أو مغلفة في حسن النوايا والمصلحة وتظنونها هدية أو منحة.
قلت: لهذه الدرجة ينخر التدخل في حياتكم لدرجة رفض النصيحة ولو كانت في صالحكم؟
قال: إن الخبرة تجربة، والتجربة يجريها من يكتسبها؛ فكيف نتجرعها تجرعاً من الآخرين إلا مع بعض أنواع الخبرات أو بالمواقف الشخصية؟ وإلا فستكون معرفية فقط وليست عملية حتى يخوضها الواحد منا.
قلت: وما الذي أوصلك لهذه الحالة اليوم مع زملائك ما دمت بهذه الحكمة عما سمعت منك وعنك هذا إذا أردت أن تحادثني فيه؟
قال: نعم، إن التكيف مع الآخرين ليس سهلاً.
قلت: لِمَ من وجهة نظرك؟
قال: لأنهم لا يدعون فرصة كافية، لذلك يريدون أن تتكيف على طباعهم سريعاً.
قلت: أو العكس.
قال: نعم.
قلت: وكيف ترى أنت التكيف مع الآخرين؟ وهل يمكننا التكيف مع كل الناس؟
قال: التكيف وسيلة للتعايش، ويختلف حسب نوع التعايش، ودرجة علاقتنا بالأشخاص وأنواعهم.
قلت: نعم، والتكيف إحدى مراحل التعامل أو آخرها بعد التعارف والتفاهم ثم التكيف.
قال: قد يكون التفاهم مرحلة صعبة، لكن الأصعب منها التكيف، خاصة في علاقة أنت مرغم عليها وطرف فيها.
قلت: كل علاقة يمكنك أن تجعلها مرنة قابلة للتغيير.
قال: لكن الصداقة بمختلف أنواعها صداقة عمل أو دراسة حرة لست مضطراً لأن تبذل جهداً مضنياً حتى تتكيف ما دامت شروط القبول والتفاهم غير متوافرة؛ فعلام أرهق نفسي؟
قلت: وهل هذا سبب خلاف اليوم؟
قال: نعم ليس كل الأصدقاء على درجة واحدة من التكيف، فمنهم أيضاً من يفرض رأيه وخبرته وقيادته على المجموعة.
قلت: لكن هناك من يستسلم لقيادة الآخرين ولا غضاضة في هذا، فهي ليست معياراً للجميع.
قال: لذا قلت: لماذا أرهق نفسي في علاقة صداقة غير مضطر لها على عكس العلاقات الأخرى كالأخوات والأقارب؟
قلت: وطبعاً على رأسهم الزواج؟
قال: نعم، وهو مرحلة جوهرية ومؤثرة في هذه العلاقة الأبدية.
قلت: وعليها تتشكل النهايات مع الأشخاص، إما سكينة واندماج وإما توتر وخلافات.
ثم سألت: هل تعلم من هم أكثر الناجحين؟
قال: أتركها لحضرتك ولخبرتك.
قلت: أكثرهم تكيفاً مع معظم الناس وتأقلماً مع الظروف وتوظيفاً لكل حدث.
قال: وهل هذا ممكن؟
قلت: أكيد ليس لكل الناس بل المتميزين فقط.
قال: خبرة أم علم؟
قلت: بل اكتساب وتدريب وممارسة.
قال: نعم إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم.
قلت: وكسب كل الناس بالتكيف.
قام متأهباً للانصراف ضاحكاً: فهمتك، نعم كل العلاقات وكل الناس بالتكيف.
ودَّعته قائلة: أشكر ذكاءك، ودعائي لك بتميز أكثر وتفوق أكبر.
قال: وأشكر حضرتك على وقتك وحوارك.