شكّلت العمليات الإرهابية الأخيرة -ضد الأبرياء المدنيين- في الشارع المدني الغربي حركة ضغط شرسة جديدة، في وقت حرج على مسلمي أوروبا وهم يواجهون حملة إسلاموفوبيا مصحوبة بتقدم ملحوظ لليمين العنصري المتطرف.
وذلك في ظل ضغط معنوي هائل يعيشه المسلمون هناك وهم يتابعون واقع شعوب الشرق، والحروب التي تُبيد مجموعات كبرى من مواطني دول هويتهم وخاصة الأطفال، من خلال حروب إقليمية أو دولية تدعم أنظمة إرهاب، أو جماعات إرهاب وغلو، وتسدد شعوب الشرق من دمها واستقرارها ضريبة صعودهم وسقوطهم.
هذا الضغط النفسي والارتباك الكبير والمعاناة في بلد المستقَرّ، باتت تؤثر بكثافة على الفكر السياسي لمسلمي الغرب، خاصة بعد أن أدرك المسلمون في أوروبا وأميركا الشمالية وكل امتدادات العمق الغربي -كنيوزلندا وأستراليا- حتمية حسم المواطنة، والانتقال المهم إلى مرحلة المواطنة الكلية ومغادرة مساحة مصطلح الجاليات، والذي كان للتأخر فيه ضريبة مكلفة.
فقد صعدت جماعات التطرف والكراهية العنصرية، وباتت تؤثر في سن القوانين الجديدة المواجهة للحريات الشخصية وخاصة موضوع الحجاب، في حين كان المستوى الأخلاقي والقانوني للدولة المدنية في الغرب -حتى عام 2000- يعيش مرحلة مميزة لتعزيز قيم التعايش والمواطنة التضامنية المشتركة مع المسلمين.
والسؤال الذي نسعى لتهيئة الإجابة عليه -لكونه مطروحا بأهمية بالغة على طاولة الفكر والسياسة والاستقرار الاجتماعي لمسلمي الغرب- هو: ما هي الرؤية الإستراتيجية التي يحتاجون لتحديدها بصورة جماعية في مستقبلهم الوطني بالغرب ومصالحهم الحيوية كشعوب مستقرة هناك؟
وهل تُصاغ هذه الرؤية بناءً على التداخل المعقّد مع قضايا الشرق وصراعاته السياسية والمذهبية والقومية، أم من خلال عناصر وحدتهم الإنسانية كشعوب ومواطنين مسلمين في هذا العالم الغربي؟
وكيف يُدار خطابهم الفكري والثقافي الذي يُحافظ على مساحة التزامهم لمفاهيم الإسلام وإيمانياته الكبرى وهويتهم الثقافية جنباً إلى جنب مع الحراك الحيوي المدني الدستوري المتطور مع شركائهم الوطنيين من بقية الأديان والأفكار والقوميات؟
وكيف تصاغ مبادئ وحدتهم وتكتلهم الاجتماعي الوطني بناءً على قواسم كبرى مشتركة وليس عبر رؤى أو منهجيات يعتقدها هذا الفريق أو ذاك من المسلمين نتيجة خلافاتهم الفقهية والسياسية في الشرق؟ وصولا إلى منظمات جامعة بينهم تتطارح هذه الرؤى وتبني عليها قرارتها الكبرى، ببعد معرفي غزير لا سطحي أو متأثر بمعارك الشرق المروعة فكريا وسياسيا وعسكريا، وبالتالي تخفف الانقسامات قدر الاستطاعة، وتصنع التحالفات حتى مع وجود خلافات أيديولوجية.
والسؤال في هذا الصدد وارد عن مدى تحقق القدرة على عزل الشراكة الوطنية في الغرب -بما فيها مساحة سلوك المنظمات المدنية والمواقف الشخصية الإعلامية لمسلميه- عن رياح الخطاب المنفعل ضد الغرب بحق أو مبالغة أو تعميم ظالم، والتي تتكرر في الشرق المسلم وخطابه العاطفي المضطرب الذي يضر -حين يُستدعى لمواطني الغرب المسلمين- بكل مسلمي الغرب إستراتيجياً.
وليس المقصود فصل الضمير المسلم في الغرب عن الشعور بمآسي أمتهم وشعوبها، بل المقصود سحب تأثيرات هذه الاحتكاكات الشرسة من سلوك البرنامج اليومي والموسمي، أمام مداولات الحقوق الوطنية الدستورية للمسلمين في الغرب، مع تنظيم حراك التذكير بقضايا شعوبهم العادلة في أفق قانوني وإنساني.
ويُصنع هذا الأفق بوسائط ذاتية لفكر مسلمي أوروبا الجديد ولا يُقذف في حلبة الصراع المتداخلة في الشرق؛ فتداول مواطني الغرب الخطاب ذاته لن يُسعف قضايا الشرق، بل سيؤثر على واقع المسلمين الذين يعانون من هجوم المتطرفين الغربيين.
وندرج هنا بعض العناصر التي تساعد في تنظيم العصف الذهني لمسلمي الغرب، وخاصة نخبة الرأي منهم التي تحتاج إلى ملتقيات عاجلة، تتداول بعمق هذه الرؤية:
1- تجدر الإشارة إلى أن العمليات الإرهابية الأخيرة في أوروبا وُظِّفت كوادرها خارج خطاب مسلمي الغرب، وهذا لا يعني عدم وجود شخص متطرف هنا وهناك بين المسلمين ضمن ملايين المهاجرين، لكن هناك فرق بين التطرف والعنف المتوحش، فهذا الأخير كانت وسيلةَ التوظيف إليه مسلم جديد أو متحوِّل جديد للتدين استُقطب عبر الإنترنت.
وليس عبر مجمل الخطاب الإسلامي العام، وإن احتاج الخطاب الديني العام إلى تقويم سلوكي وفكري، لكن هذه مسألة أخرى تختلف عن توظيف التوحش.
2- رغم كل رياح اليمين وتأثيراتها فإن الغرب ليس كتلة واحدة، والتفكير السياسي بين دوله وحكوماته يحمل مساحات فروق للتقييم والفهم، ويفتح مجالاً لفهم قواعد مصالح وطنية وحقوقية لشعوبه، وضبط المراهنة السياسية عليها.
فلا يمكن أن يجري ترحيل كل هذه الأمم من المسلمين -بهذه البساطة- من الغرب وفيهم حملة جنسياته الوطنية، إضافة إلى شخصيات حكومية، وجمعيات مدنية معتدلة، وتيارات إنسانية تؤمن بتقاسم الحق الدستوري مع مواطنيهم المسلمين، هذه قاعدة يجب أن يتمسك بها مسلمو الغرب، ومع وجود من يسعى لتهجيرهم فإن أولوياتهم مقاومته مدنيا، لا إعطاء الفرص له.
3- أخذ الاعتبار في التطور الرئيس اليوم في البلدان الأم، وهو في تصدع استقرار وجغرافيا الشرق الذي تعاني دوله من انهيارات كبيرة، فأين يذهب مسلمو الغرب الذين تأتيهم هجرات أشقائهم على قوارب الموت؟ لذلك هم اليوم لديهم قناعة كبيرة بتعزيز مواطنتهم واستقرارهم الاجتماعي.
4- الالتباس الدائم والاحتكاك مع قضايا الشرق -بذات الخطاب والإشكاليات الموجودة في المشرق- لا يُفيد أبداً قضية مواطنة مسلمي أوروبا، وإنما استيعابها وتقديمها بنموذج خطاب يفهمه العمق الغربي والحق الإنساني، وهذا مسار بدأ بالفعل لدى مسلمي الغرب منذ زمن، لكنه عاد وانتكس في بعض مواقعه في ظل كوراث الشرق المستمرة.
5- إن فقدان الرؤية الوطنية الإستراتيجية لمسلمي الغرب، والكفاح الديمقراطي الحقوقي لتأمين تعايشهم، ومراعاة حرياتهم الشخصية وحقوقهم المدنية، يعني خسارة قاعدة دعم لشعوب الشرق وقضاياه، وتعريض مستقبلهم لاضطرابات كبرى لا تخدم مواطني الغرب المسلمين، ولا تخدم شعوبهم وقضاياهم العادلة.
6- وعليه فإن عزل طريقة الخطاب وأولويات التداول عن تأثيرات التوجيه الضمني أو المباشر لشخصيات من الشرق المسلم أو متأثرة به وخاصة بالمشرق العربي، وهي لا تدرك فقه الحالة الغربية وضرورياتها؛ هو مهمة مستعجلة اليوم.
كما أن إعادة قراءة فقه الشريعة وعمقها الإنساني، ومساحة ما تمنحه من أحكام وتوجيهات، بحسب مقاصدها ثم بحسب الضروريات والحاجات الملحة؛ مسلكٌ يحتاج إلى تعزيز فكري تقنيني، وإن بدأت فيه بعض المؤسسات الإسلامية في الغرب.
7- المشكلة أن اشتباك شخصيات في المشرق، خاصة في الجدل الطائفي والعنف اللفظي الذي أثّر على حوارات المجتمعات المسلمة وزادها سوءاً، ثم انتقالهم إلى التنظير لقضايا المسلمين في الغرب، قد يؤثر سلبا على الموقف الجمعي لمسلمي الغرب.
كما أن من الضرورة دمج الحراك الحقوقي الديمقراطي بين العلمانيين والإسلاميين -من مواطني الغرب- والمذاهب، كما هي الجسور مع الأميركيين الأفارقة من المسلمين وغيرهم، وإن بقيت كتل متطرفة في هذا الاتجاه وذاك فلا يُرضخ لطرحها.
وهنا يحتاج مسلمو الغرب إلى مؤسسات فكرية تتجاوز أزمة التيارات الدعوية في الوطن العربي، وخزانة أرشيفها الحزبي الذي أضر بها، لتنفتح على مدارس التجديد التي تعيد طرحها اليوم فكريا وسلوكيا بين الإنسانيات وسياسيا، ليُفتح أمامها مستقبلها الجديد في وطنها البديل.
وكما نكرر دوماً؛ فإن الحالة الصحية هي أن يسبق الفكر العمل السياسي والحقوقي، وقد تأخرت كثيرا دسترة هذه المفاهيم الضرورية للمسلمين المتوطنين في الغرب، وخاصة عبر الرؤية الإستراتيجية ومؤسساتهم المدنية المنتخبة التي تتكفل بالمطالبة بحقوقهم، كما تنشر ثقافة ميثاقية لأبنائها.
ولسنا نزعم أن ذلك كان غائبا، بل هو موجود في تجارب ومحاولات عديدة، لكن دون أن تحقق المعادلة الإستراتيجية قوة موقف فكري تسنده رؤية وكونغرس جماعي للمسلمين، يكون نموذج “إيباك” للمسلمين، وذراعه قوة الحق والكفاح الديمقراطي للإنسان المسلم المعاصر.
—-
* المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.