أجد متعة وطرافة أن ألتقي برجل غريب في قطار أو مطار أو تاكسي، وأُفاتحه وأُؤَانِسُهُ، وربما حدّثني بأسراره أو حدثته بأسراري، وإن كنت لا أعرفه ولا يعرفني، يكفي أننا جميعاً من بني الإنسان.
ركبتُ مع سائق تاكسي في واحدة من أسفاري فتحدثنا طويلاً ثم سألته عن الانتخابات التي كانت ساخنة في بلده، فقال لي: أنا لا أُرشّح أحداً ولا أدخل في الانتخابات؛ لأن الديمقراطية حرام ولا تجوز وهي احتكام إلى غير ما أنزل الله.
قلت له: هب أن ما تقوله صحيح، أنت بين خيارين أحلاهما مر، وبين مفسدتين لا بد من وقوع أحدهما، أفليس من الحكمة والشريعة أن تساعد في تخفيف الشر وارتكاب أخف المفسدتين إن لم يكن في ذلك بعض الخير وبعض المصلحة؟
قال لي: هذه لعبة ولا جدوى من ورائها.
أجبته: نعم؛ لا يخلو الأمر من جانب استغلال من قوى ومؤسسات إعلامية وشركات رأسمالية، ولكن لو أن المسلمين في بلد ما؛ كفرنسا مثلاً، وهم بضعة ملايين، اجتمعوا على تأييد من هو أقل سوءاً وأبعد عن العنصرية واليمينية ومحاربة المهاجرين والمسلمين، أفليس في ذلك بعض الخير؟
قال لي: أنا بحثت الأمر منذ زمن واستقر قراري على أن هذه لعبة محرمة لا تجوز وهي احتكام إلى غير ما أنزل الله.
قلت له: ماذا تنتظر إذاً؟
قال: أنتظر نصراً من الله وفتحاً قريباً.
أجبت: من عجز عن نصرٍ جزئي هو عن نصرٍ كلي أعجز، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، وأمتك اليوم شديدة البعد عما تتمنى، ونواميس الحياة محكمة كنواميس الكون لا تجامل أحداً وتمض على المؤمن والكافر!
سادت لحظة صمت ثم سألته:
– أين تدرس؟
فقال: إنه في الصف الثاني في إحدى الكليات الشرعية.
– لا بأس إذاً فأنت طالب في مقتبل عمرك.
هل ستظل مذعناً لرأي أخذته بناء على بحث عابر فيما مضى من شبابك، أو موافقة لمجموعة من الأصدقاء أو لجماعةٍ تنتمي إليها، والظن أنكم توافقتم على رأي ما وتعاهدتم عليه واعتبرتموه معبراً عن شريعة الله وعن حكم الله، آخذاً صفة القطعية التي لا يتزحزح الإنسان عنها.
هل ستقضي بقية عمرك في ترديد تلك المقولات والقناعات والثبات عليها ثبات الجبال الراسيات وكأنها من الوحي المنزل؟
هل ستظل كلما هممت أن تغير رأيك هاجمتك المقولات التي كنت ترددها مع أصدقائك يوماً ما، أن هذه آراء منهزمة تخضع لفرضيات الواقع وتبعاته وانحرافاته ونحن سنظل مستعلين عليها رافضين مجرد التفكير فيها؟!
أليس هذا هو الحَوْر بَعْدَ الكَوْر؟ أليس هو الضلال بعد الهدى؟
كلا يا بني، الحق لا يُعرف بالرجال، والشاب يجب أن يمتلك الاستعداد الواضح للرجوع إلى الحق، فالرجوع إلى الحق فضيلة، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وأن أكون ذليلاً في الحق أحب إليّ من أن أكون عزيراً في الباطل، وأن أكون ذيلاً في الحق أحب إليّ من أن أكون رأساً في الباطل!
والتعصب لا تخلو منه نفس إلا من عصم الله، أسال الله أن يجعلني وإياك منهم.
سكتُّ قليلاً وأردت الانتقال إلى موضوع آخر، فسألته: بني الحبيب.
كيف أنت مع القرآن؟
تأوّه طويلاً ثم قال: يا للأسف ليس لي به عهد، وأخرج من درج السيارة مصحفاً وقال: هذا هو اليوم الوحيد الذي حملت المصحف معي لكنني لا أقرأ فيه ولا أستطيع أن أقرأ فيه.
ولم؟
قال لي: متاعب نفسية، وآلام وحسرات، وانفصال زوجي، وشتات عائلي، وفقر، وظروف ألمَّت بي.
دعوتُ له بالخير وذكّرته بأن القرآن هو العلاج لكل هذه المعاناة، وإذا لم تستطع أن تقرأ في المصحف لظروفك أو قيادتك السيارة أو لضعف قراءتك فخذ معك بعض “السيديهات”، واسمع لأكابر القرَّاء في أوقات فراغك وتدبَّر، واعلم أن هذا القرآن هو الهدى والنور وسوف يصحح أفكارك المترددة، كما يصحح مشاعرك المرتبكة، ويهديك بإذن الله إلى صراط مستقيم.
سألته مرة أخرى: كيف أنت مع الصلاة؟
قال لي: الحمد لله: أصلى الصلوات الخمس جالساً على هذا الكرسي، كرسي السيارة؛ لأنني لا أستطيع النزول بسبب ضغط العمل، والنبي – صلى الله عليه وسلم – أرشد من عجز أن يصلي قائماً فليصلِ قاعداً.
– حسناً يا بني لقد أصبحت فقيهاً في أمرٍ يخصك، ولكنه أيضاً يخص الركن الثاني من أركان الإسلام، الركن العملي، ركن الصلاة.
ويخص ركناً في هذا الركن، وهو القيام مع القدرة، فأفتيت نفسك بالصلاة قاعداً لأنك لا تستطيع إلا ذلك، وهذا أمر أنت به أعلم لأنك أقدر على معرفة ظروفك وإمكانيتك وقدرتك من عدمها.
ولكن ألم يخطر في بالك أن بضعة ملايين من المسلمين في بلدك هم بحاجة أيضاً إلى أن يراعَوا في فقه الاستطاعة وفقه الممكن فيما يتعلق بأمر دنياهم ومصالحهم وأمر دينهم، وأن البقاء على المستوى الأعلى المطلوب قد لا يكون سهلاً ولا ميسوراً، وهو مشروط كقيام الصلاة بالقدرة وليست القدرة البدنية فحسب، بل ضرورات الواقع وإكراهاته تحتاج إلى فقه رشيد، وتجاهلها ليس حكمة ولا ثباتاً بل هو موقف فادح الضرر.
لماذا نستشعر العجز ونعتذر لأنفسنا ونتأوّل في أمر شخصي قصارى ما فيه أنْ يفوّت الإنسانُ مصلحةً شخصيةً وربما كان معذوراً؛ لأن الأمر يتعلق بضرورته المعيشية، لكن الشأن لماذا نتساهل ونفتي دون تأمل ودون مراعاة لملايين الناس في الشارع الذين يتضررون من الحصار الإعلامي أو الحصار الأمني أو الحصار الاقتصادي أو المطاردة، وهم بأمس الحاجة إلى هامش ولو قليل من التسهيل الذي قد يأتي به اختيار مرشح دون آخر، أو اتخاذ قرار دون قرار؟
نعم؛ لسنا نظن أن الأحوال ستتغير بتصويتكم من صفر إلى مائة، ولا أن تتحول تحولاً تاريخياً، والفارق قد يكون يسيراً ولكنه مؤثر مع الزمن.
نحن نرى اليوم تنامي النزعات اليمينية والعنصرية في أوروبا، من أمريكا إلى سويسرا إلى هولندا إلى بريطانيا إلى النمسا إلى ألمانيا، والمسلمون العرب والمغاربة والأتراك والأفارقة وغيرهم موجودون هناك بكثرة، ويتأثَّرون بنوع المرشح والحزب الحاكم ونوع الإجراءات والمواقف التي تُتخذ معهم أو تُتخذ ضدهم.
نحن لا نجد اليوم مرشحاً يعلن تعاطفه بوضوح مع المسلمين ويتكئ عليهم، ولكننا نعلم أن 4 أو 5 ملايين مسلم في بلد ما كفرنسا لو أجمعوا على تأييد شخص فإن ذلك سيكون له أثر واضح في نجاحه في الانتخابات، وبالتالي فربما لا يفي بكل الوعود التي قطعها، ولكنه سيظل الأقل سوءاً، وهذا وإن كان لا يكفي إلا أنه هامش الخير الذي يؤدي إلى ما هو أحسن منه وأفضل، وحتى المتلاعبون من التجار والإعلاميين وسواهم سوف يحسبون لهذه الكتلة حساباً عندما تكون موحَّدةً قويةً مؤثرة.
لماذا يُضِيع الفرد المسلم هذا الهامش اليسير من التأثير الذي يتكرر كل 4 أو 5 سنوات وهو لا يخسر شيئاً، بل سوف يشعر بأنه مواطن له فاعليته وصوته، وبذا فهو أقدر على الحفاظ على هويته وثقافته ودينه.
إن اجتماع المسلمين على رأي واحد وعلى موقف واحد سيصنع لهم شخصية اجتماعية واعتباريه مؤثرة، ومحسوباً لها الحساب.
أنت تجدُ خصوم الإسلام من الصهاينة وغيرهم يصنعون المؤسسات الضخمة؛ التي تمارس الضغط والتأثير، وتحاول توحيد الوجهة، وتؤثر في القرار العالمي في الولايات المتحدة أو في غيرها وما مؤسسة “إيباك” عنا ببعيد.
أفهم جيداً أن الغرب بإعلامه وقنواته وصحافته وثقافته في الغالب يتخذ موقفاً متوجِّساً أو موقفاً عدائياً من الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، ولكن بالمقابل الملايين منا التي قررت أن تعيش هناك بسب ضغوط اقتصادية أو سياسية أو تعليمية، ما الذي يضيرها إذا تعاملت بواقعية أكثر ومسؤولية أكثر ووحَّدت موقفها، وحددت وجهتها، وتعاطت مع القضايا العامة بمسؤولية واقتدار؟ وخاصة قضية الانتخابات التي أفتى مشاهير علماء الإسلام بأهمية المشاركة فيها.
أسال الله أن يرشدك إلى ما يحب ويرضى، وأن يقويك على طاعته، وأن يرزقك القدرة على اختيار الحق ولو كان خلاف ما تربيت عليه وتلقيته في صغرك وحداثة سنك وبداية تكوينك.