تكاد تستفيق من البنج ويتراءى على أفق مخيلتها شريط ذكريات تنبض فيه بين الحين والآخر صورته، وكأن حوله هالة من النور، وتبدأ الصور في الوضوح كأنك وضعت عدسة كبيرة أمام الأفق تضبط بؤرة الأشياء، ما أوضح الأمر الآن وما أحدّ البصر: لقد استفاقت تماماً.
لمحت الملابس البيضاء للممرضة فنادت بصوت خفيض ضعيف متكسر كأنه جاء من أعماق النفس: كيف هو؟ ماذا فعل؟ أين هو؟ تهلل وجه الممرضة حيث أدركت أن المريضة أفاقت من التخدير بعد العملية، ولكنها لم تجب عليها إلا الحمد لله على السلامة حيث ظنت أن أسئلتها تعني أنها ما زالت تهذي.
كيف هي؟ ماذا فعلت؟ أين هي؟ كانت أسئلته وهو يقترب رويداً رويداً من بؤرة اليقظة والواقع.. ينظر إليها بعين الرأفة والحب، وقد نظرت إليه من قبل بعين التضحية والحب، انشرح صدر طبيب التخدير وهو يسمع أسئلته وهو يضيف دواء لحقنته ليحقنه في الأنبوب المتصل بالوريد.
كان كل واحد منهما في غرفة مستقلة في المستشفى، وقد فات يومٌ حرج في العناية المركزة قبل أن يبدي السؤال، لقد كانت نعم الزوج؛ تقدمتُ إليها ولم يكن لي منزل للزوجية وأصرت هي في وقت الزمن الجميل أن نتزوج في فندق قبل أن نسافر.. وهنا في زمن الغربة وقفت معي تصبرني وتؤازرني، وتشاركني الحياة، وتشاطرني الواجبات في تربية الأولاد، وحين مرضت كانت تهديني البلسم وتعلمني الرضا، كالملاك الطاهر والصدّيقة الزاهدة والزهرة الفواحة، وكان آخر ما فعلت لي فوق الوصف.
كان هو نسمة الهواء البارد في حر الغربة، كان مقلة العين التي أرى بها، كان أهلي وأنسي وراحتي، لا يشتكي رغم ما يعانيه، رأيتُ فيه تواضع العلماء ورضا المقربين وحب العارفين، كان ذا فؤاد رقيق وقلب لين، صبر على ابتلاء الله بلا شكوى ولا أنين عسى الله أن يرفع درجته، بدأت دموعها تنهمر من سحب فيض الرحمة الزوجية وهي تبتهل إلى الله تعالى على سريرها أن تُكتب له الحياة وأن يتم الله له الشفاء، ما رأيت منه إلا كل الخير وأود أن أفديه بالجسد والروح.
كانت أسئلتها عنه وأسئلته عنها تلقى آذاناً صاغية ولكن بإجابة عامة غير شافية.
مر يوم آخر وعاد السؤال ولم تطمئنها الإجابة، أرادت أن تراه رأي العين، فقيل لها: إنه قد خرج للتو من غرفة الإنعاش وممنوع الزيارة.
– أنا لست زائرة.. أنا هو.
وأراد هو أن يراها فقيل له: إنها لا تستطيع أن تتحرك بعد، وأنت ما زلت في حالة حرجة، كان يشعر رغم ذلك بأن جسده يتجدد وأعضاءه يتولد منها توازن عجيب يسكب في نفسه قوة وراحة، إن الفضل لله ثم لزوجته فيما يحدث، يود أن يذهب إليها حيث ترقد في المستشفى ليعبر له عما يجيش في صدره ولو أنه لا يوجد فيه ما يكفي لإظهار الشكر.
نظر إلى كمّ الأجهزة والأنابيب وأصواتها وصورها وحركتها وهي متصلة بجسده كأنها تقيده في محبسه، ولكن روحه الحرة أخذت ترتفع وتدور في آفاق وردية جميلة هي الصفاء بعينه، والطمأنينة بذاتها، لقد كان وفاؤها وتضحيتها فوق ذلك كله، ابتسم بسمة الرضا ونام.
استيقظ كأنه في منام جميل، حيث شعر كأنه وجد ضالته واكتمل قلبه وتمت نعمة الله عليه، وجدها بسريرها وقد جاءت إلى جواره في توازٍ تناديه: كيف أنت؟ ماذا فعلت؟
انتفض.. أراد أن يتحرك ليأخذها في أحضان قلبه.. عرف عينيها الخضراوين اللامعتين بمسحة الدموع فوق غطاء الوجه الطبي.
لقد شرحت لكبير الأطباء الأمر وسمح لها بزيارة قصيرة، كان سريره مرتفعاً عن سريرها، أنزل سريره بحركة زر، ليرتفع سريرها ومقامها إلى علٍ، نظر كل منهما للآخر نظرة رحمة صادقة خاصة كأنما اهتزت لها الملائكة الراكعون الساجدون، مد يده اليمنى فاقتربت منها يدها اليسرى، تشابكت الأصابع فاتصلت المشاعر وسرى الحب بلا حاجز، وراح في ملكوت المعيّة.
– الحمد لله على السلامة.. قطع الصوت عليهما ما كانا فيه..
– الحمد لله.. كلية المدام التي تم زرعها فيك تعمل بكفاءة عالية.