فاجأ التاجر الفلسطيني أسامة أبو دلال غيره من المواطنين المدينين له بمبالغ مالية، بمسامحتهم عن تلك الأعباء، مخففًا عنهم تلك الأحمال الثقيلة، والتي لم يقو الغزّيون على سدادها خلال العامين الماضيين، لكن خطوته سُرعان ما أصبحت فعلاً خيريًا على أرض الواقع تناقله تُجار وبائعو غزة وأفرادها.
ولم تكن خطوة أبو دلال، صاحب معرض الأحذية، بمدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، من فراغ، إذ تيقّن بأن مجموع مديوناته والتي رفض الإفصاح عنها، واكتفى بوصفها بـ”الضخمة”، لن تسترد في ظل تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية للفلسطينيين، في القطاع الساحلي المحاصر، ودفعته الإجابات المُحزنة من المدينين له لإقرار مسامحتهم عن كل تلك الديون.
عقب ذلك، ابتسم الغزّيون لاستجابات التاجرين والبائعين وحتى الأفراد بعد فِعل أبو دلال، وراحوا يطربون آذانهم بأخبار التسامح في الديون، إذ استغل بعضهم مواقع التواصل الاجتماعي لإعلان مسامحتهم لكل المدينين لهم، في خطوة من شأنها إراحة بال الفلسطينيين المنهكين اقتصاديًا بفعل تعاقب الأزمات على القطاع البائس.
ودخل عام 2018 على غزة بجيوب فارغة لم تحمل أي أخبار سعيدة على السكان الذين لا زالوا ينتظرون إنعاش اقتصادهم، بعدما ودعوا عامًا مضى خاوي الجيوب، واستقبلوا آخر بأمنيات بقلب الواقع إيجابًا لا سلبًا، لكن خطوة أبو دلال وما تلاها من ردّات فعل مشابهة أبسمت شفاه الغزّيين البائسين والمُرهقين بالديون قليلاً.
ويوضح أبو دلال لـ”العربي الجديد” أن محاولاته في استرداد ديونه تبوء بالفشل مع كل سؤال للمدينين له عنها، الأمر الذي أوصل به الحال إلى عزوف بعض المواطنين عن التردد على محله في الفترة الماضية خشية من تكرار السؤال نفسه، ما دفعه لإقرار مسامحة الجميع بتلك الأموال.
وتلا أبو دلال محمد المصري، صاحب محل تصليح إطارات السيارات، في بيت حانون، شمال قطاع غزة، وأقدم على مسامحة كل المدينين له، في هدف مشابه لسابقه، بالتخفيف عن الشعب الفلسطيني المنكوب في مساحة لا تتعدى 365 كيلو مترًا مربعًا، مكتومي النفس بها، لا قادرين على توفير الحياة الكريمة لأنفسهم فيها.
ويبين المصري لـ”العربي الجديد” أنه سامح كل المواطنين في المبلغ الذي تجاوز 10 آلاف دولار أميركي، يقينًا منه بأن استمرار الأوضاع المعيشية بهذا السوء في غزة، لن يجلب له كل تلك الديون، لا بل سيزيد من عبء المدينين له، مُقرًا بأن تلك الخطوة قد تُغير من أحوال الناس شيئًا بسيطًا وتُسعدهم مع العام الجديد.
ويعتبر ذلك المبلغ طائلاً مقارنة بمعدل دخل الفرد الواحد في غزة والذي انخفض إلى دولار واحد يوميًا، بسبب تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية سوءًا، خاصة مع اقتراب دخول الحصار الإسرائيلي على القطاع عامه الثاني عشر على التوالي، فضلاً عن الإجراءات العقابية الممارسة ضدهم من قبل السلطة الفلسطينية منذ الربع الثاني من العام الماضي، ما فاقم أزماتهم المعيشية.
البطالة أكثر من 46%
وحسب إحصائيات رسمية، وصلت البطالة في غزة إلى نحو 46.6%، معظمها بين صفوف الشباب المتعلمين، الذين باتوا يبحثون عن منفذ للخروج من ذلك المستنقع دون حلول في الأفق، ومعها ارتفاع معدلات الفقر في القطاع، في ظل عدم تجاوز متوسط دخل الفرد فيه دولاراً واحداً.
ردّات فعل أخرى قام بها بعض التجار والأفراد، من محلات تجارية وصناعية وأشخاص بعينهم، يعفون المواطنين من الديون المالية، في بادرة لا تزال تأخذ صدى واسعًا بين صفوف الفلسطينيين في غزة، ما يُترجم حالة التسامح بينهم من جهة، وعِلمهم بالأوضاع السيئة للسكان وأحوالهم الاقتصادية التعيسة من جهة أخرى.
أحد أصحاب محال السوبر ماركت في غزة، قام بإعفاء الأسر الفلسطينية ميسورة الحال، والعاطلين من العمل عن كامل الديون المستحقة والمتراكمة عليهم، كما قدّر معاناة موظفي غزة والذين يعانون في تقاضي رواتبهم وشُحها، وكذلك ممن يتقاضون أموالاً تحت مسمى “الشؤون الاجتماعية”، وأعفاهم من 50 % من الديون المتبقية عليهم.
مواطنٌ آخر، خفف عن غيره مديونيةً تصل إلى ألف دولار، رغبةً منه في أخذ ذات الأجر من التخفيف عن أعباء المواطنين المثقلين بالديون والهموم، داعيًا الجميع لأن يكونوا سواسية في تيسير أمور السكان في القطاع، منوهًا إلى أن الأمر يجب ألا يقتصر على التجار والبائعين فقط، بل الأفراد كذلك.
موظف حكومي في غزة لم تمنعه مرارة الظروف التي يمر بها، من إعفاء آخر بمبلغ مالي، وسامحه فيه، محملاً نفسه عبء رد كفالته له عبر حسم مجموع ذلك الدين من راتبه الخاص مقسمًا على 18 شهرًا، مبتغيًا بذلك أجرًا من الله، وتحقيقًا للهدف المرجو منها التخفيف عن شؤون المواطنين الضائقين ذرعًا بالحياة في غزة.
ولولا اشتداد الأزمات على غزة في العام المنصرم، والتي أنهكت اقتصاد القطاع وكبدتهم إفلاسًا واضحًا في جيوب الفلسطينيين، لما وصل الأمر بالفلسطينيين للانجرار لتلك الخطوات الإيجابية المفاجئة، بعدما كان العام الماضي ومعه بدايات الحاضر، الأسوأ بكل جوانبه المعيشية والاقتصادية والاجتماعية من الأعوام العشرة الماضية.
وتبدو تلك الخطوات استجابة أولى لدعوات المكلومين في غزة، مع العام الجديد، والمُرهقين اقتصاديًا بشدة منذ فرض الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إجراءات “عقابية” ضدهم، منذ الربع الثاني من عام 2017، عدا عن الحصار الإسرائيلي المُطبق على القطاع الساحلي، دون تحقيق “اتفاق المصالحة” الموقع في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول لأي تغير واضح.
وبالعودة للأجواء الإيجابية بين الفلسطينيين أنفسهم، أقدم أحد أصحاب العقارات في غزة على مسامحة المستأجرين لديه من إيجار 6 أشهر، ليحذو حذو من سبقوه، طامعًا في الأجر الذي يناله من التخفيف عن كُرب الفلسطينيين، بعدما أرهقتهم أحوالهم المعيشية، وغيّبت ردود فعل الحكومات عن التحرك نجدةً لشؤونهم.
مبادرات أخرى فردية قام بها فلسطينيون، احداها من عاملين في صيانة الكهرباء في القطاع، عارضين خدماتهم المجانية على البيوت التي ترغب في إصلاح أعطالهم، حيث الجدران المظلمة منذ زمن في وجه سكانها وأطفالها، حتى باتوا غير قادرين على الاستدلال على جيوبهم التي هجروها مع قلة الحال واعتيادهم على العوز.
وليكون المشهد كاملاً، أقدم بعض العاملين في مجال المحاماة في غزة، على منافسة من سبقوهم بالخير، وأعلن بعضهم عن استعدادهم لتنظيم “عقود إيجار” لكل شخص مستأجر مع المالك، وعقود أخرى أحد أطرافها غير مقتدر على دفع رسوم تلك المعاملات، معززين بتلك الخطوة اشتداد الظروف الاقتصادية على أهالي القطاع.