نقف في هذه المقالة عند مناقشة بعض المظاهر السلوكيَّة والثقافية التي يعيش بين جوانبها الإنسانُ العربي، وذلك بمجرد اقتِراب دخول الشهر الفضيل على المسلمين، أهلَّه الله علينا بالخير العميم إن شاء الله تعالى.
إنَّنا نعيش في الأيام الأخيرة لاستقبال شهر رمضان، والمسلمون قاطِبة ينتظرون بفارغ الصَّبر وكامل الرجاء متى يحين وقت رؤية هِلال رمضان والعيش في رِحاب هذا الشهر العظيم، وكلهم قد استجاب للنِّداء النبوي حين توجَّه رسولُ الله إلى الله عز وجل بدعائه المأثور: ((اللهمَّ أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام))[1]، والتأمل في هذه الكلمة النبويَّة الجامعة يحتاج منا إلى الوقوف عند هذه العبارات المؤسسة لمضمونها، وهي كالآتي:
1- في قوله عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ)) نجد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم الأمَّةَ أهميَّة الارتباط بالله تعالى، وحسن الاتصال به في مختلف الظروف والأحوال التي يعيش فيها العبد وهو يتقلَّب في السير إلى الله تعالى دعاء وتضرعًا، وهو تذكير للعبد بضرورة الرجوع إليه سبحانه للدلالة على تحقيق معنى العبودية، وخروجًا عمَّا قد يَعتري هذه العلاقة من شبهات وتشويش.
لذا؛ من الواجب على العبد المؤمن أن يَجأر إلى مولاه رغبًا ورهبًا، خاصَّة وأنه على مشارف استقبال شهر رمضان المعظم، وهنا نستحضر قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، ولا يخفى علينا أنَّ من أسرار هذه الآيات الكريمة أنها بدأَت بالحديث عن فرضيَّة صيام رمضان، وختمت بأهميَّة الرجوع إلى الله دعاء وتضرعًا.
قال الطاهر بن عاشور في هذا السياق ما نصه: “وليكون نظم الآية مؤذنًا بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجِب له عليهم، أكرمهم فقال: وإذا سألوا عن حقِّهم عليَّ، فإنِّي قريبٌ منهم، أجيب دعوتهم، وجعل هذا الخير مرتبًا على تقدير سؤالهم؛ إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمرَ بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا: هل لنا جزاء على ذلك؟ وأنَّهم قد يحجمون عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أدبًا مع الله تعالى؛ فلذلك قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ ﴾ الصَّريح بأن هذا سيقع في المستقبل”[2].
لكن إذا كان سياق الآية مبنيًّا على ما يستقبل من الزمان، فهذا للدلالة على التلازم والارتباط الوثيق بين عِبادة الصيام وعدد من العبادات الأخرى متضمَّنة فيها؛ ومنها الدعاء.
2- في قوله عليه الصلاة والسلام: ((أَهِلَّه)) معانٍ ودلالات؛ من أهمِّها: حمل معنى البُشرى لاستقبال الهلال؛ لأنَّه مؤشر على بداية موعد جديد، خاصَّة أن الحديث هنا عن استقبال رمضان الذي يحتفي به الوجود الكوني لدرجة أن الله تعالى يتدخَّل بنفسه بتهيئة الأجواء الربَّانية لاستقبال هذا “المولود” على أحسن ما يكون؛ لأنَّه محفوف بالخيرات والنَّفحات الربانية، التي يجب التعرُّض لها واستغلال الوقت فيها.
- وهذه هي الدلالة الثانية لقوله: ((أهِلَّه))، وهي مشتقَّة من “الهلال”، بمعنى كل ما يرتبط بالوقت، والذي له علاقة مباشرة بعمر الإنسان، الذي يجب تَعميره بنفحات رمضان وخيراته التي لا تكون إلَّا موسمية، ولمن وفَّقه الله تعالى.
3- أما دلالة “الأَمن” في الدعاء النبوي، فالوقوف عندها يحتاج منَّا إلى الكثير؛ لأننا نعيش في زمَن فقدنا فيه الأمنَ وما يرتبط به من مفردات تنتمي إلى حقله الدلالي، فقد وردت الكلمة معرفة بـ “أل”؛ للدلالة على الاستِغراق والشمول لكلِّ المعاني التي تنضوي تحتها من قريبٍ أو بعيد، وهذه المفردات كلها نجدها بفعل التدخل الإلهي في تلطيف أجواء رمضان تتحقَّق صدقًا وعدلًا لولا تدخُّل الفعل البشري بتعكير أجوائه والمساهمة في إحداث كل ما يَخرم هذه المفردة، وهذا طبعًا راجع لمختلف التراكمات الثقافية التي صارت محكَّمة في القيم والسلوكات التي نمارسها داخل رمضان أو التي يفرضها الإعلام – مع الأسف الشديد – ويعمل على ترويجها وتسويقها، ولو على حساب الإخلال بمادة الأمن الذي نَطمح للعيش بين ظلاله ولو في هذه الأيام المعدودات.
إذًا، كيف نعيش في ظلال الأمن، وفي كل مكان من البلد أو الأمة نسمع إنسانًا يئن، أو قلِقًا، أو في حيرة؟ فهل من مأمن؟ إننا نشاهد حروبًا طاحنة ومآسيَ ودماء، فما المخرج منها؟
4- أما مفردة “الإيمان” الواردة في الحديث النبوي، فتعتبر بمثابة الوعاء الحاضِن لكلِّ ما سبق ذِكره؛ فهي تمثِّل المنظومة المعرفيَّة التي ينطلق منها العبد في تصوُّراته تجاه الكون والوجود البشري عمومًا، كما أن هذه المفردة هي المؤطر لسلوكات الإنسان في علاقاته الأربع التي يدور بينها، سواء في علاقته مع خالقه أو نفسه، أو غيره من مكونات المجتمع، أو البيئة التي يحيا بين جوانبها.
إن الإيمان بالله تعالى يتجسَّد بشكل واضح جدًّا في سلوك المسلم، خاصة في نهار رمضان؛ حيث قد تتوفَّر لديه من الفرص المناسبة ما يجعله منفردًا خاليًا بنفسه بين جدران أربعة يفعل ما يشاء من القبائح والمنكرات، ولكن خلال أيام رمضان تجد معنى الإيمان بالغيب حاضرًا بقوَّة في قلبه مما يجعل حتى مجرَّد تفكير في الإفطار غائبًا عن ذهنه تمامًا؛ نظرًا لتلك القداسة والمكانة العظيمة التي أعطاها لرمضان، ولكن أقول – مع الأسف – أعطاها لرمضان، ولم يعطِها لمفردة الإيمان بالله واليوم الآخر، وهذا ما يفسر أنَّ صيام الكثير من المسلمين صار صيام عادة لا عبادة.
إن الأسئلة الحقيقية كثيرة، وتدقُّ ناقوس الخطر في مختلف مجالات الحياة، والإجابة الشافية عنها تظلُّ صورتها تحمل ضبابًا كثيفًا بين مكونات المجتمع المختلفة، فإننا نجد مَن تمادى في ارتكاب الموبقات، ومن اقترف جريمة من الجرائم، وآخر سقط في مزالق الهوى…
إلا أنَّه مهما طال الأمَد فتبقى أعظم خاصية تميِّز الإنسان هي أنه رجَّاع أوَّاب إلى الله تعالى، وهي الخاصيَّة التي تميِّز الفطرةَ البشرية في استقامتها وعند استفاقتها من براثن الغفلة التي كانت منتكسة فيها، ما دام هذا الإنسان يحمل قلبًا يرفرف، وضميرًا يؤنِّب، ونفسًا لوَّامة، وإن كان ذلك بدرجات بين بني آدم.
أجل إنَّ مدرسة رمضان الربانيَّة تعتبر فرصة للبحث عن هذا القلب الضَّائع في مرتع الشهوات، وإحياء هذا الضَّمير الذي تطبع مع عوادي المجتمع الفاسدة، وإيقاظ هذه النَّفس اللوَّامة حتى تؤوب إلى خالقها مرة أخرى.
ومن دلالات الدعاء النبوي في طلبه لتحقيق الأمن ما يفيد أنه أعز ما يطلبه العبد على المستوى الفردي ثمَّ الاجتماعي؛ لأنَّه الوعاء الحاضن للقيام بمختلف الشعائر التعبديَّة؛ ومنها عبادة الصوم التي هي عِبادة جماعيَّة بالدرجة الأولى، فكيف يصوم العبد في غياب الأمن النَّفسي والاجتماعي؟
إنَّ هذا الذي ذكرته هو ما يفسِّر انخفاض بعض الحوادث الاجتماعية؛ من جرائم وتقتيل وحوادث السير وغيرها من الآفات، وهنا نتذكَّر بالمناسبة أن عددًا من الناس لم يكن يتورَّع عن أكل المال الحرام، واغتصاب أرزاق المواطنين ظلمًا وعدوانًا، فتأتي فرصة رمضان للعودة إلى الله تعالى والتوبة من هذا العمل الفاسد، ونتذكَّر كذلك عددًا من الناس كيف يسأل عن أعمال قبيحة ارتكبها خارج هذا الشهر العظيم، ويخشى من عدم قَبول صيامه، فتجده متحسرًا نادمًا على ما اكتسبَت يداه، متوجهًا إلى الله تعالى بالتوبة الصادقة، مجتهدًا في الطاعات والصالحات.
إنِّي عمدتُ إلى طرح مثل هذه الآفات الاجتماعيَّة في ضوء التوجيه النبوي؛ حتى نعلم ما مدى الرحمات الربانيَّة التي يريدها لنا الله تعالى، سواء في موسم رمضان أو غيره، وهذا كذلك يذكِّرنا بقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وفي هذا السياق نقتطف إشارة: “وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها؛ فهي ميسَّرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوَّقها بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها، وتطبع نَفس المسلم بطابع خاص من السَّماحة التي لا تَكلُّف فيها ولا تعقيد؛ سماحة تؤدَّى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادَّة وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصَّاعدة في طمأنينة وثِقة ورضاء، مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين”.
وهذه هي النَّفحة العلويَّة للشريعة الإسلامية، وهي القيمة المضافة لهذا الدين، ولكن السلوك البشري تجاه رمضان قد حصلت فيه تغييرات جذرية طمسَت معالمه الربانيَّة التي جاء من أجلها، وهي كما تعلمون “التقوى”، هذه المفردة التي ضاعت بين موائد الشَّهوات، وتتبُّع ما تبثُّه القنوات.
وما أجمل تصوير صاحب الظلال وهو يرسم لنا لوحة رائعة مؤثِّرة عنها، وذلك حين اعتبرها ذلك: “الرباط الذي يعقل النفوسَ عن الاعتداء؛ الاعتداء بالقتل ابتداء، والاعتداء في الثَّأر أخيرًا، التقوى: حساسية القلب وشعوره بالخوف من الله، وتحرُّجه من غضبه، وتطلبه لرضاه، إنه بغير هذا الرِّباط لا تقوم شريعة، ولا يفلح قانون، ولا يتحرج متحرج، ولا تَكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان! وهذا ما يفسِّر لنا ندرة عدد الجرائم التي أُقيمَت فيها الحدود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهدِ الخلفاء، ومعظمها كان مصحوبًا باعتراف الجاني نفسه طائعًا مختارًا؛ لقد كانت هنالك التقوى، كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضَّمائر، وفي حنايا القلوب، تكفُّها عن مواضع الحدود.. إلى جانب الشريعة النيِّرة البصيرة بخفايا الفِطَر ومكنونات القلوب، وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية، والتوجيهات والعبادات من ناحيةٍ أخرى، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصوُّر سليم الشعور، نظيف الحركة نظيف السلوك؛ لأنها تقيم مَحْكَمَتَها الأولى في داخل الضمير!”؛ إنها التقوى، إنَّها التقوى.
بقيَت لي كلمة أخيرة: وهي أنَّ رمضان يحل علينا في هذا الموسم الربَّاني ضيفًا ومضيفًا؛ فالضيف في الشريعة الإسلامية يَحتاج إلى الإكرام، فإذا أَكرمْناه، حلَّت بنا الخيرات التي نَدفع بها الشرور ونزعات النَّفس الأمَّارة بالسوء، وإكرام رَمضان من تجلِّياته تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة في استِقباله، وغالبها في المبالغة في الاستعداد المادي إلى حدِّ الوقوع في الإسراف والإصابة ببعض الأمراض التي جاء رمضان لوقاية الإنسان منها.
ومضيفًا: حيث يقدِّم لنا عددًا من الخيرات والأعمال الصالحة التي ينبغي استثمار الوقت في الظفر بها؛ لأنه ربما يكون الواحد منَّا في ضيافته للمرة الأخيرة، أو ربما ينزل هو في ضيافة غيرنا بعد أعمار قصيرة، فهلَّا أكرمنا ضيفَنا! وهلَّا تعرَّضنا لنفحات مضيفنا! ولعلَّ أهمها ما نشير إليه في هذه الومضات السريعة:
- لعلَّ البعض من الصائمين مَن ارتكس في بحر عاديات المجتمع التي يَغلب عليها الانحراف عن مقاصد هذا الدِّين، فيتحول صومه من العِبادة إلى العادة، وهنا يحاول المرء أن يبرِّئ ذمَّته فقط، فيؤدي الواجب “المفروض” عليه فقط؛ فلنحاول تغيير هذه النَّظرة إلى تصحيح هذه النظرة الخاطئة، فنعبد اللهَ تعالى؛ استجابة لأوامره، وابتعادًا عن نواهيه، تحقيقًا لمعنى العبودية.
- إنَّ بعض الصائمين ما زالت عنده عادات خاطئة؛ من حيث التمييز بين نَهار رمضان وليله، فأغلب هؤلاء يَقضي يومه غارقًا في قتل عمره بين النوم العميق، ولعب الورق، وغير ذلك مما يقتل به الإنسان عمرَه تخلُّصًا من “مشقَّة” الصوم، أما في الليل، فلا تسَل عنه من السَّهر، والتعاطي للموبقات، واقتراف الآثام والمعاصي؛ كأنَّ ذلك الإنسان يعيش خارج رمضان، ونحن مطالبون بسنَّة التغيير وتجاوز هذه القيم الفاسدة والمفسدة التي تخدش أجرَ الصوم الذي لا يعلمه إلَّا الله تعالى، مستجيبين للتحذير النَّبوي حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لم يدَع قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجة في أن يدَع طعامَه وشرابه))[3]، فما أحوجَنا إلى تحصيل أجر الصيام كاملًا كما وعَد به الله تعالى في الحديث القدسي على لِسان رسولنا الكريم في قوله: ((كل عمل ابن آدم له، إلَّا الصيام؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به))[4].
- إنَّ نفحات رمضان وخيراته كثيرة تَحتاج منا إلى عزم وإرادة لتفعيلها وتحويلها إلى سلوك ملموس على أرض الواقع.
——————————————————————————–
[1] ناصر الدين الألباني: “سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها”، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1415 – 1995، ج 4، ص 430، رقم: 1816، رواه الترمذي (2/ 256)، والحاكم (4/ 285).
[2] الطاهر بن عاشور: “التحرير والتنوير”، الدار التونسية للنشر، 1984، ج 2، ص 178.
[3] ابن حجر العسقلاني: “فتح الباري”، باب فضل الصوم، دار المعرفة – بيروت، 1379، ج 4، ص 104.
[4] أبو الوليد القرطبي الباجي الأندلسي: “المنتقى شرح الموطأ”، مطبعة السعادة، مصر، ط 1، 1332، ج 2، ص 60.
——
* المصدر: الألوكة (بتصرف يسير).