– رغم أن العباد هم خلق الله وتحت سلطانه فإنه يتودد إليهم بالنعم التي لا تعد ولا تحصى
– تبدأ رحلة حب الله مع الحجاج منذ أن لبوا نداءه إلى بيته الحرام وقد عقدوا العزم على أداء فريضة الحج
– كل يوم يمر علينا ونحن في طاعة لله هو يوم عظيم قد أشبه العيد في معناه
– العيد الكبير لكل مسلم يوم ينتصر على نفسه الأمارة بالسوء حين تميل إلى الهوى وارتكاب الذنوب
– عندما يعرف الغني حق الفقير في ماله فيخرجه وحينما يتعفف الفقير عن سؤال الناس فهذا يوم عيد
إنها محطة الفرح والسرور، والسعادة والاستبشار، والأنس والسكينة، والهدوء والطمأنينة، ولِمَ لا وفيها ينعم القلب بالتواصل مع ربه عز وجل ويزداد حباً له، ويكِدّ الجسد ويكدح في مرضاة خالقه وواهبه الحياة -تبارك وتعالى- ويزداد قرباً منه، فهي محطة كل المؤمنين الصادقين المحبين لله بصدق، كما أنها محطة الوافدين ضيوفاً على ربهم لأداء فريضة الحج.
تهل علينا أيام الحج المباركات، حيث يفد ضيوف الرحمن على ربهم وقد قطعوا المسافات الطويلة ليصلوا إلى بيته، قد خلفوا من ورائهم أهليهم وذراريهم حباً لله وطلباً لمرضاته والقرب منه، ليحظوا بالمنزلة العالية والمغفرة الكبيرة والحب الرباني الذي يطهرهم فيرجعون من حجهم أطهاراً أبراراً كيوم ولدتهم أمهاتهم، ويأتي العيد يوم الحج الأكبر مرتبطاً بهذا النسك العظيم، وجائزة للإتيان بالركن الخامس من أركان الدين، وقد ورد في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الحج الأكبر يوم النحر»، قال الشيخ طنطاوي: «ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة.. ويكون فيه ذبح القرابين، وحلق الرؤوس، ورمي الجمار، ومعظم أفعال الحج».
وفي هذه الأيام المباركة منّ الله علينا بإكمال الدين وإظهاره، وتمت نعمته بإكمال الشرائع والأحكام، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، قال عمر رضي الله عنه: «قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، يوم جمعة، ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد»، وقال: «فلا يزال ذلك اليوم عيداً للمسلمين ما بقي منهم أحد».
سبيل المؤمنين
إن حب الله عز وجل والتقرب إليه هو سبيل المؤمنين، ومصدر سعادتهم، فمن أجله يحبون العيش في الدنيا، حيث يتقربون إلى الله في كل وقت ويعمرون أوقاتهم بالقرب منه وقد أحبوه، وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ) (البقرة: 165)، ومع أن العباد هم خلق الله، وهو عز وجل القادر عليهم ويعلم سرهم ونجواهم وهم جميعاً تحت قهره وسلطانه، إلا أنه سبحانه وتعالى يتودد إليهم بالنعم التي لا تعد ولا تحصى، ويتودد إليهم بقبول توبتهم وستر ذنوبهم ومغفرتها، ويحلم عليهم مع ظلمهم وتقصيرهم، وإن من أسمائه «الودود»، قال الشيخ طنطاوي: «الودود: الكثير المحبة والود لمن أطاعه واتبع هداه»، وقال الإمام البغوي: «وللودود معنيان؛ أحدهما: أنه محب للمؤمنين، وقيل: هو بمعنى المودود أي محبوب المؤمنين».
إن هذا الحب العظيم هو الحب الحقيقي الذي من أجله يعمل العاملون، وهم في كل عمل يتذوقون حلاوته ويشربون من كأسه الذي لا ينضب، لا يفترون عن ذكر ربهم الذي أحبوه حباً فاق حب النفس والمال والأهل والولد، لذا فإنك تراهم لا يجزعون لفقد، ولا يهتمون لفقر، ولا يضعفون لمرض، ولا يفتتنون لابتلاء؛ لأنهم رضوا بما ارتضاه الله تعالى لهم، قد صبروا على شهوات الأنفس وردُّوا شبهات الأهواء، وثبتوا مع فتن الأيام وتقلب الأزمان، همُّهم في هذه الحياة كيف يحبهم الله ويحبونه؛ حتى يكون عيشهم وكل أيامهم عيداً كبيراً لهم، وأي عيد!
لبيك اللهم لبيك
وتبدأ رحلة حب الله مع الحجاج منذ أن لبوا نداء ربهم إلى بيته الحرام، وقد عقدوا العزم والنية على أداء فريضة الحج، حتى شدوا الرحال إليه وهم يهتفون: «لبيك اللهم لبيك»، إنهم يعظمون حرمات الله وشعائره المتعلقة بالمناسك منذ أن بدؤوا الإحرام واجتنبوا محظوراته، ومن قبل ذلك عظموها في كل حياتهم امتثالاً لأمر الله (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) (الحج: 30)، قال الشيخ السعدي: «وحرمات الله: كل ما له حرمة، وأمر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل»، وقال ابن كثير: «ومن يعظم حرمات الله» أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه»، وقال مجاهد: الحرمة: مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها.
وتأتي البشائر العظيمة حيث أفراح الحجاج بالمِنَح الربانية التي يهبها الله لمن زار بيته حاجاً ومعتمراً، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، منها قوله: «أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام؛ فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك سيئة» (صحيح الجامع، حسنه الألباني)، وقوله: «ما أهَلّ مهلّ قط، ولا كبَّر مكبّر قط إلا بُشّر بالجنة» (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وقوله: «الحجة المبرورة ليس لها جزاء إلا الجنة، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» (صحيح النسائي)، وقوله: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (رواه البخاري)، أفلا تضيف هذه العطايا للحجاج مزيداً من الفرح مع فرحة العيد؟
العيد بحياة المسلم
إن كل يوم يمر علينا ويعود ونحن في طاعة لله وصلاح لهو يوم عظيم قد أشبه العيد في معناه وإن لم يشبهه في وقته وشكله، إذ يتنسم المسلم فيه عبق المحبة والرضا حين يلهج بلسانه: «رضيت بالله رباً»، ويقدم البرهان العملي واضحاً ظاهراً عياناً في عبادات قلبه وجوارحه، وفي أقواله وأفعاله، وسلوكه وأخلاقه، مما يجعله دائم القرب من ربه في كل أحواله، ويجد في هذا أحب الأوقات إلى نفسه، ويشعر ويتذوق فرحة الأعياد في قلبه، ولا عجب في ذلك، فما أشبه يوم طاعته بيوم العيد! ألا ترى أن كلاً من عيد الفطر وعيد الأضحى مرتبط بتمام الطاعات؟ وإن أيام الطاعات والنجاح في امتحان القلوب لتذكّر بالعيد وتجدد فرحته في قلوب الناجحين.
ولقد نجح نبي الله إبراهيم عليه السلام من قبل في اختبار الحب الكبير، حيث أثبت حبه خالصاً لله بتقديمه على حب ولده الذي أُمِر بذبحه، وقد رزق به بعد طول غياب وشوق؛ فكانت له الجائزة كبش الفداء العظيم، وصارت الأضحية سُنة على المسلم كل عام، وصار يوم نجاحه عيداً له ولكل المسلمين (عيد الأضحى) إحياء للمناسبة وتخليداً للطاعة ولقصة الفداء.
إن العيد الكبير لكل مسلم يوم ينتصر على نفسه الأمارة بالسوء حين تميل إلى الهوى وارتكاب الذنوب، فيلومها ويوبخها ويحاسبها، «ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟»؛ وسرعان ما يرتقي بها إلى النفس المطمئنة إلى ربها، المنقادة لداعي الهدى والرشاد.
وحين يمتلئ القلب إيماناً ويقيناً، ويدعو صاحبه إلى الله على علم وبصيرة دون أن تضله الأهواء، فإن ذلك القلب يعيش فرَح العيد الكبير.
وحين تنطلق الأعين لتخترق جُدُر الحرام بالنظرة الحرام، فيسرع صاحبها بالغضّ من بصره طاعة وحباً لله فهذا له عيد كبير.
وحين ينتصر المسلم على شهوته فلا يضعها إلا في مكانها الحلال، وتسمو المسلمة على شهوة التبرج والسفور، وتلزم الحشمة والحياء، وترتدي رداء العفة والحجاب؛ طاعة وحباً لله، فإنهما يعيشان أجواء العيد الكبير.
وحين يجعل المسلم من أهم أعماله تلاوة القرآن الكريم وفهمه، وقراءة أذكاره وورده، ولا ينشغل عن ذلك؛ فهو في يوم عيد كبير.
وحين يتعفف عن أكل الحرام، ويبتعد عن السحت والرشوة وأخذ المال وكنزه بغير حق، فهو في عيده الكبير.
وعندما يعرف الغني حق الفقير في ماله فيخرجه له دون منّ أو أذى، وينفق مما أعطاه الله، وفي المقابل يتعفف الفقير عن سؤال الناس ويبحث عن كسب حلال طيب، ولا يشكو ربه للناس؛ فهذا لهم جميعاً يوم عيد كبير.
وحين يقوم كل زوج بواجبه تجاه زوجه، ويؤدي حقه عليه دون ظلم أو غبن، ودون ضرر أو ضرار، طاعة لله وحباً، وحين تؤدَّى الحقوق وتعرف الواجبات ويحل العدل ويهرب الظلم وتنتشر المحبة وتختفي الأثرة والأنانية؛ طاعة لله وحباً؛ فهذا لهم وللمجتمع عيد كبير وأي عيد.
وحين يقوم الوالدان بتربية الأولاد على الإيمان، مع الاهتمام بهم في كل النواحي (الإيمانية والعلمية والصحية والاجتماعية والنفسية والمالية والتربوية) طاعة وحباً لله، وحين يكون البرّ دأب الأولاد، وتكون صلة الأرحام عادة وعبادة؛ فإن الأسرة تعيش العيد الكبير.
وحين يعرف المعلم دوره فيؤديه، ويعرف طالب العلم ما عليه فيقوم به، ويعرف الجميع حرمة الغش والكذب والزور ويجتنبونه، فيعم العلم ويقل الجهل، وتنتشر المحبة وتختفي الكراهية، وتَسُود الأخلاق الطيبة؛ طاعة لله وحباً؛ فهذا للجميع عيد كبير.
ألا وإن كل يوم تعيشه أيها المسلم مطيعاً لربك هو يوم فرح وسعادة وسرور وعيد، وإن العيد الكبير يوم أن تترسخ معاني الإيمان وأخلاق الإسلام في مجتمع المسلمين، ويكونون ممن يطيعون الله ويُرضُونه، فيحبهم جميعاً ويحبونه.