– ردود فعل غاضبة لما ورد بالتقرير من عمليات سلخ هوية الشعب وانسلاخ ظاهري عن الإسلام وتعاليمه
– الجورجي: مأزق اللجنة هو تركيبتها التي ضمت أفراداً معروفين بعدائهم لـ”الإسلام السياسي”
– هذا التقرير لم يأتِ نتاج حوار مجتمعي بل يستقوي بأجهزة الدولة لفرضه على الناس
– الشعب التونسي وعلماؤه تصدوا لما ورد في التقرير من عمليات سلخ هوية الشعب والدولة
يحتدم الجدل في تونس حالياً حول ما ورد في «تقرير لجنة الحريات والمساواة» التي شكلها الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، بمقتضى أمر رئاسي رقم (111 لسنة 2017) المؤرخ في 13 أغسطس 2017م، استناداً بزعمهم إلى دستور 2014، والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، والتوجّهات المعاصرة في هذا المجال، وهي قراءة خاصة تتخطى الفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة، كما أن الدولة المدنية ليست هي الدولة العلمانية أو اللائكية اللادينية، بل الدولة الإسلامية في تعريف العلماء هي دولة مدنية تدار فيها الأمور وفق رغبة الأمة.
من المآخذ على «تقرير لجنة الحريات والمساواة» رفضه لقانون الاعتداء على المقدسات؛ لأنه جاء نتيجة ضغط منظمة المؤتمر الإسلامي إثر اعتداءات 11 سبتمبر، وقد ساهم هذا القانون، حسب رأي اللجنة، في «توتير الأوضاع في العالم».
وقد أشار التقرير إلى أن قوانين ازدراء الأديان ذات نتائج عكسية تؤدي إلى إدانة الملحدين واللادينيين، وهو ما أدى إلى طرح مسألة التكفير التي ترى فيها اللجنة مناسبة لتجريم التكفير وتجريم التدخل في أمور تخصّ دين الغير أو ممارسة الشعائر أو نيّة الإساءة أو التحريض.
وترى اللجنة ضرورة حماية الحياة الخاصة للشواذ من الدولة ومن الأفراد، مع ضرورة تنقية المجلة الجزائية من النواقص، مثل معاقبة المجاهرة بالفحش أو التعدي على الأخلاق الحميدة أو الآداب العامة أو مضايقة الناس بما يخل بالحياء، وأن من القوانين البالية التي مازالت تشكل اعتداء على حرمة الحياة الخاصة، كما تراها اللجنة، تجريم المجلة الجزائية للواط والمساحقة، بما يحيل على طلب عدم التجريم؛ وهو ما أثار حفيظة المجتمع التونسي المسلم، وترى اللجنة أنه لا دخل للدولة والمجتمع في الحياة الجنسية بين الرشّد، بما في ذلك الزنا واللواط والسحاق.
وتقر اللجنة رفع القيود الدينية والحقوق المدنية ومنها الحرية التعاقدية؛ بمعنى عدم وضع أي ممارسة فردية أو جماعية تحت مظلة الدين والعرف وحتى القانون المعمول به، لصالح قوانين جديدة تبيح وتسمح بكل ذلك، كما تُلغى عبارة «مسلمين من المجلة الجزائية»، وكذلك عبارة «ولا تقع بين المسلمين حتى لو كان فيها ما يخالف دينهم»، كما تلغى عبارة «ويستثنى في ذلك الطعام عند المسلمين»؛ بما يعني تكفير المسلمين عملياً، وتحت سلطة القانون الجبري الذي يدعون إليه.
وكذا يلغى الأمر العلي المتعلق ببيع الكحول للتونسيين المسلمين، مع تحصين فقه القضاء وضرورة تخليه عن الموانع الدينية للزواج والميراث، مع التخلي عن تجريم الأفعال المنضوية في حرمة الحياة الخاصة، وهو ما تدعو إليه اللجنة، منها أحكام مبدأ الشرعية في تجريم بعض الأفعال ومنها «يعاقب بخطية 1000 دينار من أتى عملاً جنسياً أمام الناس أو كشف أعضاءه التناسلية»، بما يفيد أن اللجنة لا ترى مانعاً من تلك الممارسات بما في ذلك كشف العورات في الشوارع والأماكن العامة وأمام الناس.
واللجنة لا ترى بأساً في الزنا، كما تقر ضرورة إلغاء ما تراه تمييزاً في المواريث، كما يضمن القانون المقترح من قبل اللجنة المساواة لمن أرادها، فيكون نصيب الأنثى بيدها إلا أن تشاء عكس ذلك، أما إذا كانت قاصراً أو لم تجب وفضلت الصمت أو وجدت مانعاً في الاختيار فإن نصيبها مساوٍ للرجل، ولا بد من المساواة بين الابن الشرعي والابن الطبيعي (ابن الزنا) في الميراث وغيره من الحقوق المدنية.
وتطالب اللجنة بإلغاء عدة المرأة المتوفى زوجها أو المطلقة، ومنع الختان، وبالمثلية الجنسية، وإلغاء دور الدين في الشأن العام بل تجريمه.
ردود الفعل
وجاءت ردود الفعل على عدة مستويات، منها الأكاديميون وأهل الاختصاص، ثم وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، وردود الأفعال الشعبية التي دفعت بعض أعضاء اللجنة للتراجع وحتى التنصل مما جاء في التقرير، كما فعل صلاح الدين الجورجي في مؤسسة التميمي للبحث العلمي، ومحاولة التقليل مما ورد في التقرير باعتباره مجرد مقترحات يمكن لرئيس الدولة أن يأخذ منها ويرد وحتى إلغاء التقرير برمته، وأن التقرير لم يصبح قوانين، وإنما هو معروض للنقاش والتوافق، كما تردد رئيسة اللجنة بشرى بلحاج حميدة.
كما صدرت من بعض الجمعيات العلمانية بيانات تؤيد ما جاء في التقرير، وتدعو لعرضه على مجلس نواب الشعب للمصادقة عليه، رغم أن معظم النواب يرفضونه حتى من داخل نواب المعارضة وحزب نداء تونس الذي شكله الرئيس الباجي قايد السبسي.
وقد لقي التقرير دعماً فرنسياً، ومن بعض المنظمات “الجندرية” في العالم، وعلقت السفارة الفرنسية على ذلك في بيان على صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي: “تابعت فرنسا باهتمام كبير التقرير الذي قدمته لجنة الحريات الفردية والمساواة إلى رئيس الجمهورية التونسية، وهي ترحب بالمقترحات الملموسة ضد التمييز ومن أجل الحريات الفردية في جميع أبعادها، وتشمل الإجراءات التي اقترحتها اللجنة المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وإلغاء عقوبة الإعدام، وإلغاء تجريم المثلية الجنسية.. نرحب بحيوية الديمقراطية التونسية ونأمل أن يساهم تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة في تعزيز النموذج الديمقراطي التونسي ودولة القانون.. لقد أكد رئيس الجمهورية “ماكرون” دعمنا لجهود تونس في هذا الاتجاه خلال زيارة الدولة التي أدّاها إلى تونس في 31 يناير الماضي”.
موقف أهل العلم
عرفت البلاد التونسية حيوية علمية غير مسبوقة رداً على «تقرير لجنة الحريات والمساواة» التي كانت، وفق مطلعين، استجابة لإملاءات خارجية ومحاولات لإحراج حزب حركة النهضة، بل استهدافه من خلال ذلك، الذي اتبع إستراتيجية وضع الأمر أمام الشعب ونوابه وأهل الاختصاص، ولم يغرق في معارك مباشرة أو جانبية، وقد نجحت هذه الإستراتيجية نجاحاً باهراً، إذ تصدى الشعب التونسي وعلماؤه لما ورد في التقرير من عمليات سلخ هوية الشعب والدولة، وانسلاخ ظاهري واضح عن الإسلام وتعاليمه، ليس ذلك فحسب، بل شن حرب ضده، ومنع أي تأثير له على القضاء أو ما يعرف بالأحوال الشخصية والحياة العامة.
وقد دفع ذلك عدداً من العلماء إلى مطالبة رئيس الجمهورية بسحب التقرير وإخماد نار الفتنة في البلاد، كما ذكر ذلك الشيخ الطيب الغزي في لقاء له مع الباجي قايد السبسي، كما شهدت بعض المدن التونسية ندوات فكرية علمية حضرها علماء ومفكرون فندت ما جاء في التقرير.
وقد ذكرت “المجتمع” في تقارير سابقة مواقف عدد من العلماء والمفكرين حشرت أعضاء اللجنة وتقريرهم في الزاوية، وليس أدل على ذلك تصريحات بعض أعضاء اللجنة.
وقد ذكر صلاح الدين الجورجي، وهو أحد أعضاء اللجنة التي صاغت التقرير، بأنه اكتشف بعد صدور التقرير والمعارضة الكبيرة التي لقيها مضمونه من طرف الكثير من الناس وفي مقدمتهم أساتذة جامعة الزيتونة والجمعيات الدينية، أنه قد مشى على أرض متحركة كثيرة الألغام، وأنه وقع في ورطة كبيرة؛ وذلك بسبب تركيبة اللجنة غير المتوازنة التي ضمت أفراداً من طيف سياسي واحد وانتماء أيديولوجي معروف، فإصلاح بهذا الحجم ويتعلق بالأحكام الدينية ويلامس تشريعات الإسلام لا يمكن أن تتولاه لجنة لا يوجد من ضمنها مختصون في الشريعة الإسلامية، وعناصر من الدائرة الإسلامية، وهذا يعني أن المأزق الأول الذي وقعت فيه هذه اللجنة هو تركيبتها التي ضمت أفراداً من نفس الدائرة الفكرية، منهم من هو معروف بعدائه لـ”الإسلام السياسي” (التيار الإسلامي)، واستبعدت من هو أولى بالحديث عن إصلاح الفكر الإسلامي، ما فهم منه أن التقرير غايته إحراج حركة النهضة.
المأزق الثاني، كما ذكر الجورجي، هو قضية المرجعيات الفكرية التي وجب اعتمادها ونحن ننظر في مسائل خطيرة تمس إيمان وعقيدة التونسيين، فهل نعتمد الحقوق الكونية والمواثيق الدولية وما أمضت عليه تونس من معاهدات مع الدول المعنية بموضوع حقوق الإنسان لا غير؟ أم نعتمد كليات الإسلام وأحكامه العامة ومقاصده الكلية؟ بمعنى آخر؛ كان علينا أن نجيب عن سؤال مركزي؛ وهو أي موقع للإسلام في هذا التقرير؟
وللأمانة -الكلام للجورجي- كان هناك من ضمن اللجنة من رفض اعتماد الإسلام في هذا التقرير، وكان يرى أنه لا دخل للدين في مجال الحريات والمساواة، وقد كان موقفي في هذا الخصوص أن من يستبعد الإسلام من هذا الجدل يعتمد فهماً سطحياً لا يساعد على فهم ما يجري في هذا البلد، وفهم مكانة الإسلام في ثقافة وحياة التونسيين، لذلك كان الحسم بالاعتماد على أحكام الدستور الذي جاء فيه أن الإسلام يمثل إحدى الركائز الأساسية للبلاد.
المأزق الثالث الذي تعرضت له في هذه اللجنة، كما يؤكد الجورجي، هو علاقة الدولة بالتغيير الاجتماعي، وهل يمكن أن تغير المجتمع من خلال القانون والثقافة التي تفرضهما الدولة؟ وأنه لا يمكن أن نستعمل الدولة وآلياتها وقوتها لإخضاع المجتمع لرأيها، وهذا التقرير الذي صغناه وجهت له تهمة أساسية؛ وهي أن من صاغه قد استقوى بأجهزة الدولة لفرضه على الناس؛ بما يعني أنه لم يكن نتاج حوار مجتمعي قاعدي شارك فيه الجميع واستغرق وقتاً لازماً للوصول والخروج بقناعات يقبل بها الجميع.
وأشار الجورجي إلى أن التقرير مفروض من الخارج، ودعا رئيس الجمهورية للقاء أساتذة الزيتونة والمفكرين الذين انتقدوه بشدة.