في لحظة لا أتذكرها كنت هنا، مضت الأيام ولا أجد مبررا للحديث عن أشياء صارت باهتة؛ غامت ذاكرتي، الأمر الوحيد الذي يدفع بي للقلم هو أثر الجرح على جسدي، خطوط تركها سوط الجلاد الذي لا يرحم على ظهري؛ بصقته في وجهي؛ يوم أن اقتادوني في ظلمة الليل الذي فقد قمره، حشرت مع آخرين؛ يبدو أنني ارتكبت جناية لا تغتفر؛ في تلك العلبة من الصفيح تداخل جسدي، محشوة بمسامير تركت عمدا لتنغرس في قلبي، رائحة عفنة في ركنها القصي، يموت المرء كل ثانية، أين أنا لا أدري؟
إلى أية وجهة يسيرون بي؟
انتهت صلتي بالعالم الذي كان من دقائق يضج بالحياة؛ أنا الآن مستلب الإرادة، مطوق بقيد حديدي.
حاولت أن أستعيد بضعة آيات تواسيني، دعوت الله أن يفرج همي؛ في هذه الحالة يبقى المرء تائها، يفقد اسمه وهويته، تموت لديه الرغبة، يتحول إلى ورقة ذابلة؛ بل حشرة تداس بالأحذية السوداء كما قلوبهم الغليظة، أخذت أستحضر ما يظن أنه جريمة؛ كنت دائما مطيعا، لا لسان لي، بل تركتهم يختارون اسمي وتنازلت عن هويتي لأجل أن يرضوا عني، يوم أن هفا قلبي بفتاة؛ أسرعت إلى أبي أن يأذن لي بالتفكير فيها، لم يسمح لي، اختار لي أخرى، مثل خناق كريه كانت، حتى رغبتي في ليلة مخملية تبدأ بإشارة منه، هي من تختار لي ثيابي، ظلت هكذا آمرة ناهية، ارتضيت الخنوع، نسيت رجولتي في زحمة الذل والمهانة.
تخيلوا كنت أصلح لأن أنجب ألف طفل؛ لكن الهوان يميت الفحولة؛ يبقي الأسد عنينا، تمردت علي، فما المرأة إلا سطوة رجل وفحولة ذكر؛ وأنا ميت الجسد مضيع الهوية، يسخر مني أطفال الشوارع، تعبث بلحيتي بنات الغجر؛ لا قيمة لشبه رجل كما لا جدوى من جسده العليل؛ تذكرت بنت محجوب تلك المرأة الفحل، كم كان الطيب صالح رائعا حين وصف مصرع الذكور بين فخذيها، لا داعي لتلك الحكاية؛ فموسم الهجرة مشرع الأبواب، تبا لمن أمات في الذكورة وجعلني كالقرد العجوز.
لكن كل هذا لا يجعلهم يسطون بي!
ربما وشى بي أحد هؤلاء الذين يلعقون الأحذية؛ فرغم الخنوع الذي عشته والذل الذي ملأ نفسي، لم أجرب طعم حذاء مدير العمل؛ سبب هذا أن لساني قصير جدا لا يمتد حتى شراشف نعله، حولت وجهتي إلى صورة السيد الكبير حيث واجهة المبنى الدائري الذي يمتد إلى نصف المدينة التى نعمل بها، أشير إليه بالتحية عند مروري من البوابة الممغنطة؛ إذا لم أفعل يخصم من راتبي حافز الانتماء؛ إنه قرار سيادي لا دخل للصغار- وأنا بطبيعة وضعي أحدهم- بمتاقشة القرار أو حتى التفكير فيه، وأما النصف المتبقي فهو شارات المرور التي تمنع العابرين من اجتياز السور العالي حيث يسكن السيد، لا حيلة لي في ذلك، وشى بي هذا الغادر؛ بي كراهية لمقام الإدارة العليا، تقول أوراقي المهنية : يجيد التفكير في أكثر من موضوع؛ وتلك فيما عرفت تهمة أخرى؛ كيف لمن يعيش في مدينة السيد عالي المقام بأن يمتلك تفكيرا؟
أحد الوشاة قلب حروف الكلمة؛ رغم أنني لا أطيل لحيتي، ثيابي التي لا أمتلك غيرها تقلصت إلى الركبة، بل لا أحسن الصلاة؛ أردد آيات الثناء والذكر بمحامد مسئول الإدارة العمومية؛ كيف يكون لمثلي أن يظن به كل هذا؟
يبدو أن سبب حشري في هذه العربة غير ما تبادر إلى عقلي المصاب بالرهق، إنه بائع الجرائد حين سألته عن مجلة تلهب مشاعري الدفينة؛ أبيات شعر محشورة داخل أوراقها، كل زملائي يرفعون عقيرتهم بها في وجه الفاتنات؛ هفت نفسي ﻷجرب؛ ليتني استمعت لنصيحة زوجتي: إياك أن تنظر إلى أخرى؛ وضعت منديلا ليجذب عطر زميلتي؛ لا أدري لم وشى بي بائع الجرائد؟
الآن تذكرت، سألته عن ديوان نزار قباني؛ صار يهذي كمن لدغته حية؛ كأنني سألته عن قصيدته الممنوعة -وشعره ممنوع بقرار من أصحاب اللحى أو من يملكون العصا- عرفته يتأوه من عيون بلقيس؛ لم يدر في ذهني أنه مغضوب عليه.
بلغت بي الحيرة كل طريق، أبي وزوجتي ونزار، غير معقول أن يشي بي كل هؤلاء، ثمة أمر لم أفطن إليه؛ إنني متهم؛ بأن السيد عالي المقام لا أقدم له واجب التكرمة حين يأتي طيفه في منامي، جحود ونكران يعطل مسيرة العمل، زميلتي من وشت بي؛ حين أخبرتها في ورقة أودعتها حقيبتها أنها دائما تزورني في أحلامي؛ كم كنت ساذجا!