الثقافة لم تعد محصورة في التصور القديم الذي يضعها في كتاب أو عرض مسرحي أو معرض تشكيلي أو مجلة وجريدة
الشركات في حاجة دوما لمعرفة الثقافة المحلية وتطوراتها وذائقتها المتغيرة أو الثابتة وأيضا ثقافة البلدان الأخرى
عمل الفنانين في الصناعات الإبداعية يوفر لهم استقلالية وحرية نسبية، يجعلهم يطلقون أفكارهم وخيالاتهم للإبداع
سياسة النظام الرأسمالي العالمي تقتضي وجود مبدعين في القيادة والتصميم والإنتاج والتوزيع
إذا كان النموذج الأمريكي متسيدا الآن في العالم تحت دعاوى الأمركة والعولمة فإن ثقافات أجنبية أخرى سادت قبله
الصناعات الإبداعية مفهوم جديد في عالم الاقتصاد والثقافة؛ يعني استثمار طاقات المبدعين في تخصصاتهم المختلفة (الفنون التشكيلية، الآداب، الثقافة، الفكر، الدراما، السينما، المسرح.. ) في تحقيق نهضة أوطانهم، ليكونوا جزءا من التنمية المستدامة، وقد يقودون بأفكارهم قاطرة التنمية ذاتها.
وثمة مصطلحات عدة ترتبط بالصناعات الإبداعية، منها: “الصناعات الثقافية” و”الصناعات الابتكارية”؛ وكذلك “الصناعات القائمة على المضامين”، أو “الصناعات القائمة على حقوق المؤلف” و”الاقتصاد الثقافي أو الاقتصاد المعرفي الثقافي”.
وهذه التعابير المختلفة تنمُّ عن مواقف تحليلية وأيديولوجية مختلفة مرتبطة بها، وهي تعابير ومواقف تناول باحثون أكاديميون عديدون في هذا المجال دراسة تاريخها. وأصبحت كل مجموعة من هذه التعابير مع سوابقها وتفاسيرها ميداناً لنقاش حيوي بين الخبراء([1]).
تثقيف الحياة الاقتصادية
لدى النظرة الأولية للمصطلحات السابقة سنرصد تكرارا للفظة “صناعات” التي تأتي مضافة لمصطلحات تتصل بالثقافة والفكر والمؤلف؛ وهو ما يعني بداهة أن الثقافة لم تعد محصورة في التصور القديم الذي يضعها في كتاب أو عرض مسرحي أو معرض تشكيلي أو مجلة وجريدة، وإنما أضحت اقتصادا له صناعات، وفيه صنّاع ومسوّقون ومخططون، بجانب المبدعين؛ وهو ما يعني أن المبدع/المؤلف صار جزءا من عملية أكبر منه، فلا مجال للمبدع الذي يتخيل نفسه في برج عاجي يرصد العالم ويفلسف له؛ لأن الإبداع لازم في الصناعات، وتحتاج إليه المنتجات، من أجل تسويق الهوية الثقافية والحضارية للأمة.
وعلى المبدع أن يفكر في هذه الدائرة الأكبر، وهذا لا يعني أنه يترك إبداعه، وإنما سيزيد في دائرة خيالاته كيف يمكنه نشر ثقافة أمته، وتقديمها للثقافات الأخرى.
والمثال على ذلك واضح، فإنتاج المسلسلات وأفلام السينما صناعة ضخمة يعمل فيها عشرات الآلاف في الاستوديوهات، بجانب شركات الدعاية والتوزيع، وشركات دور العرض وغير ذلك، ناهيك عن القنوات الفضائية، كل هذا صناعة، ويقف من ورائه مبدع يكتب المسلسل فكرة و”سيناريو” وحوارا، وهناك مبدعون مصاحبون له في الموسيقى والديكورات والإخراج والتصوير، غير الممثلين أنفسهم.
كل هذا يتم، ويستخدم أيضا في الترويج السياحي والتجاري، وإعطاء رسائل مبطنة وظاهرة عن ثقافة الأمة التي تنتج هذه المسلسلات، وبعضها يقوم بتوزيع مسلسلاته وأفلامه القديمة مجانا، من أجل تحويل الذائقة نحو فنونه، وضمان وجود قاعدة لدى الشعوب تتذوق فنونه، وتشتاق إليها، وتشتريها، ثم تأتي سياحة لها.
ومن هنا جاءت الدعوة إلى ما يسمى “تثقيف الحياة الاقتصادية Culturalization of economic life “، التي ترتبط بالنظام الرأسمالي المعاصر، وتتسم بقدر متنام من التراكم الارتدادي، في الحياة الاقتصادية، الشامل لجزء كبير من الارتدادية الجمالية، في كل من مجالات الإنتاج والاستهلاك؛ وهو ما يعني الحاجة إلى أفكار جديدة في المجال الثقافي والفكري والفني، يتم تسويقها في العالم، علاوة على تقديم سلع ومنتجات تلائم ثقافات البلدان المستوردة([2]).
فالثقافة في الاقتصاد الرأسمالي ضرورية على مستويين: الأول محلي: ويتصل بالمجتمع المحلي الذي يتم التسويق له من قبل الشركات الوطنية، فلا بد من مراعاة أذواق الناس، وثقافتهم وميولهم في الملبس والمأكل والصناعة الترفيهية وغير ذلك. والمستوى الثاني: مراعاة ثقافة البلدان المستوردة للبضائع.
وفي الحالتين فإن الشركات في حاجة دوما لمعرفة الثقافة المحلية وتطوراتها وذائقتها المتغيرة أو الثابتة، وأيضا ثقافة البلدان الأخرى، وهذا ما سيقوم به الفنانون والخبراء والمثقفون، الذين سيجدون مداخيل مالية كبيرة جراء تعاملهم؛ وهو ما نلاحظه الآن بقوة؛ فالأسواق الخليجية والعربية تمتلئ ببضائع مصنوعة في الصين، وكلها تراعي ثقافة المجتمعات العربية المتوارثة، فالحجاب والعباءات النسوية والجلابيب الرجالية والمسابح والعطور، وحتى ملابس الإحرام.. تنتج كلها في الصين، ووفق الثقافة العربية الإسلامية! و الأمر نفسه في صناعات التجميل؛ فكل مستحضرات التجميل في الأسواق العربية تتلاءم مع الذوق العام السائد فيها، على الرغم من أنها تصنع في الغرب، وقس على ذلك الكثير.
ولا يمنع هذا من ترويج ثقافة ما ضمن هذا التنافس الهائل في الصناعات، وهو ما يتم بالفعل بأشكال مختلفة، من خلال المطاعم ووسائل الإعلام والفنون.
البحث عن الموهوبين
ولا شك أن عمل الفنانين في الصناعات الإبداعية يوفر لهم استقلالية وحرية نسبية، يجعلهم يطلقون أفكارهم وخيالاتهم للإبداع، وأيضا يستفيدون من وجود فرق من المبدعين، مما يصقل من قدراتهم، ويزيد من خبراتهم، خاصة أن الصناعات الإبداعية أوجدت تقسيما ثلاثيا للعمل: طاقما للإبداع والابتكار، طاقما فني مرتبطا بتنفيذ الإنتاج الإبداعي، ومديرين وإداريين مختصين بوظائف التحكم والتنسيق؛ نتيجة لإيقاع العمل السريع، فإن الشركات تبحث دائما عن المواهب الجديدة([3]).
إن سياسة النظام الرأسمالي العالمي، والقيم الليبرالية الحاكمة فيه، ومعطيات الأسواق، وأذواق المستهلكين، تقتضي وجود مبدعين في القيادة والتصميم والإنتاج والتوزيع، كما أنها ترفض الطابع النمطي التقليدي في العمل، الذي نراه في مؤسسات الحكومة والقطاع العام، وتجنح دائما إلى البحث عن الموهوبين. وقد استطاعت النظم الليبرالية أن تراعي الجوانب الاجتماعية للعمال، خاصة مع الرقابة الصارمة من قبل الدول والحكومات والمؤسسات التشريعية والقضائية، مما يعني الحد من أشكال الاستغلال وأكل حقوق العمال.
وللعلم، فإن الصناعات الإبداعية كانت متحققة بأشكال مختلفة منذ عقود طويلة، إلا أنها كانت مرتبطة بالهيمنة والاستعلاء على الشعوب، فإذا كان النموذج الأمريكي متسيدا الآن في العالم تحت دعاوى الأمركة / العولمة، فإن ثقافات أجنبية سادت قبله، مع الحقبة الاستعمارية التقليدية المباشرة، من خلال تصدير نموذج ثقافة الدولة المستعمِرة لدى الشعوب المستعمَرة، كما في نموذج الثقافة الإنجليزية، والذي ساد في المستعمرات البريطانية، من خلال الأدب الإنجليزي، والصناعة الإنجليزي، ومدح تقدم بريطانيا العظمى، وبالتالي السير على نهجها في استيراد نظمها التربوية والجامعية، ودراسة فلسفتها([4]).
وقد صاحب ذلك إقبال كبير على المنتجات البريطانية، ومعلوم أن الكاتبة البوليسية أجاثا كريستي بيع من مؤلفاتها أكثر من ألف ومئتي مليون نسخة على مستوى العالم، وعرف العالم من خلال كتبها أدق تفاصيل المجتمع البريطاني وعاداته اليومية.
[1] ) تقرير عن الاقتصاد الإبداعي، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ( اليونسكو )، منشورات مجمع أبو ظبي للثقافة والفنون، 2013م، ص21.
[2] ) الصناعات الإبداعية: كيف تنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة ؟، تحرير: جون هارتلي. فصل بعنوان: الاقتصاد الإبداعي، تأليف: تيري فلو، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2007م، ص173.
[3] ) السابق، ص175.
[4] ) انظر تفصيلا: ظاهرة الاستعمار في أفريقيا والعالم العربي، د. حسن سيد سليمان، مجلة دراسات إفريقية، منشورات: المركز الإسلامي الإفريقي، الخرطوم، 1986م، ص76، 77.