كان عمر “بيتهوفن” تسعة عشر عامًا حين قامت الثورة الفرنسية، وكان وقتها يقيم في “فيينا” إحدى عواصم أوروبا الكبرى المدافعة عن الملكية أمام الأفكار الجمهورية الوافدة.
رأى “بيتهوفن” في أفكار الثورة انتصارا للإنسان ضد سيطرة الكنيسة والإقطاع، وفي زمن كانت الموسيقى ثلاثة أنواع: نوع للكنيسة يعزف في المناسبات الدينية، ونوع للبلاط يعزف في سهرات القصور لزوم التسلية والوجاهة الاجتماعية، ونوع للشعب يرتبط بحياتهم ومناسباتهم وتطلعاتهم وكفاحهم من أجل حياة أفضل، فتمرد على السلطة الملكية وألف لحن البطولة “إيرويكا” وأهداه إلى “نابليون”، وما كاد ينتهي من اللحن حتى سمع أن “نابليون” ألغى الجمهورية وأعلن نفسه إمبراطورا فمزق اللحن .
ضاعت منه فرصة التربح من العمل في خدمة الكنيسة والبلاط كما كان شائعاً، وبسبب مواقفه تعرض للمضايقة والتضييق ومنعوا موسيقاه من المدارس .
وانقضى عمره كأي إنسان، وزالت ممالك وقامت أخرى، وظل فنه خالداً .
ليس مطلوبا من الفنان كي يكون صاحب رسالة أن يكون واعظا، ولا حتى مصلحا اجتماعيا؛ فكم من موهوب خدع جماهيره بما مثَّله عليهم من أدوار الشرف والبطولة على الشاشات، وانكشف زيفه وخداعه في واقع الحياة .
يكفي الفنان أن يرتفع بأذواق الناس ويغذي وجدانهم، وألا يوظف حب الجماهير لفنه لخدمة سلطة زمنية، أو السقوط في مستنقع التزلف والتربح من سلطة ديكتاتورية.
فارق كبير بين وقوف “ميريل كريب” مقدم حفل الأوسكار موجهاً حديثه للتواصل بين المختلفين في الرأي من ديموقراطيين ومحافظين لمعالجة ما رآه انقساماً في المجتمع الأمريكي، وموقف (الفنان) في بلادنا يعالج نفس المشكلة بأغنية: “احنا شعب وأنتو شعب.. لينا رب وليكو رب”!!
فارق كبير بين فنان يؤدي رسالته في تعزيز القيم والارتقاء بالذوق وتغذية الوجدان، وبين غيره ممن ينشر الميوعة والخنا، أو يقدم باسم الواقعية أسوأ رذائل المجتمع، أو يشارك بفنه في تغييب الوعي وتعبيد الجماهير بمفاهيم الرضا بالقهر والذل والفقر .
وإذا أردنا ضرب مثال محلي عربي يوضح المعنى ويبرزه، فأبرز مثال في نظري هو للفنانة “فيروز”.. فتلك الفنانة اجتمعت لها الموهبة والجدية والإخلاص لرسالة فنها، فارتفعت بأذواق الناس وأشبعت وجدانهم، كلمة ولحنا وأداءً، وزينته ببساطة واحتشام واحترام في الشكل والحركة.
لم توظف فنها لخدمة رئيس أو زعيم أو حزب سياسي، لم تنحَزْ لطائفة أو مذهب أو دين .
كانت لكل الناس فأحبها واحترمها كل الناس .
وهذا هو خلاصة الفنان ورسالته .