اشتهرت فنلندا بأنها الأفضل تعليما على مستوى العالم، منافسة جيرانها من الدول الاسكندنافية، ولك أن تتخيل أن سبب ذلك هو تقليل أيام الفصل الدراسي، وتقليص ساعات التدريس في الأسبوع، وتجميد الاختبارات الموحدة، وإلغاء الواجبات المنزلية، فتوجت بالمراكز الأولى في اختبارات القياس الدولية.
صاحب هذه الفكرة د.باسي سالبرغ، صاحب كتاب «الدروس الفنلندية»، الذي يبدأ بالتذكير بأهداف التعليم: بناء اقتصاد جيد، والمحافظة على ثقافة البلد، ويقول: أباد التعليم الفنلندي 99% من جراثيم التعليم العالمي، وهي: كثافة المواد، كثرة الاختبارات، طول وقت الدوام، الواجبات والدراسة المنزلية، لأنها ممارسات غير تربوية، إضافة إلى التشدد في محاسبة الطالب والمعلم، كل ذلك من شأنه إرهاق المعلم والتلميذ معًا، وإضعاف عملية التعليم ككل.
ونرى نتيجة ذلك.. الطالب أقل قلقًا، والمعلم أقل توترا، والأبوين أكثر راحة.
ويحذر د.سالبرغ من إلزام الطالب بمعلومات تفصيلية وحفظها (يعتبرها حشو وتلقين) لم يحفظها كُتَّابها الأصليون أساسًا، ولا يتداولها إلا أهل التخصص الدقيق، ويسميها «المعرفة المعزولة». وينبغي التركيز على تعليم الطالب التفكير الإبداعي، والضمير الأخلاقي، والمهارات التواصلية، والموهبة الخاصة. وهذه لا تتطلب مصطلحات جامدة، ولا حفظ نصوص مطولة.
كما أن للمدرسة دور أكبر من أن تحكم على طالب من خلال ورقة، فالتعليم ليس للتقييم، والتوصيف الوظيفي للمعلم محدد بمساعدة كل طالب لفهم المادة داخل الصف، دون ملاحقته بامتحانات طويلة وقصيرة ومفاجئة، ومواسم رعب نهائية.
وبالتالي.. لا يعطى طلاب الابتدائية شهادات تحدد مستواهم بالدرجات والتقديرات، تجنبًا للتصنيفات والمقارنات المبكرة بين الأقران.
وأشار د.سالبرغ إلى الانتقال من مرحلة “توحيد التعليم” إلى مرحلة «تفريد التعليم»، التي تقوم على تفاوت الطلبة في قدراتهم وإمكانياتهم خلال عملية التعلم. ففي مرحلة التفريد يوجَّه المعلم إلى وضع خطة فردية تتناسب مع الاختلافات الطبيعية بين طالب وآخر. وتتسم هذه الخطط الفردية بالمرونة العالية، بحيث يتمكن المعلم من متابعة أداء كل تلميذ على حدة، وبحسب نقاط قوته وضعفه يحدد مدى تطور مستواه التعليمي، ولا يقارَن بتلميذ بآخر، فكل تلميذ له مسار تقييمي خاص يدركه معلمه جيدًا.
وقد يؤدي ذلك إلى استمرار المعلم في تدريس نفس الصف بنفس الطلبة لأكثر من خمس مراحل متتالية، وربما يعرف تلاميذه أكثر مما يعرفهم آباؤهم، وبذلك تلاشت نسب الرسوب في مدارس فنلندا.
وترى المدرسة الفنلندية أن رسوب الطالب نوعًا من الظلم الواقع عليه، لأنه الوحيد الذي يتحمَّل فشل الإدارة والمناهج والمعلمين.
وعندما يُقرَع جرس المغادرة إلى البيت، يكون الطالب في هذه اللحظة قد امتلك باقي يومه؛ يمكث مع والديه، يلعب مع رفقته، يلتحق بناديه.
إن المجتمع بحاجة إلى طالب مُعَد نفسيًّا لمواجهة المشكلات، وذهنيًّا لابتكار الحلول، وهذا ما كان ينتظره الاقتصاديون من التعليم، باعتبار المدرسة منصة ملهمة لبث الأفكار المبتكرة في المجتمع. فانتقلت فنلندا من اقتصاد يعتمد على الموارد، إلى اقتصاد يعتمد على الابتكار.
ووثق المعلم الأمريكي تيموثي ووكر في كتابه “دَرِّس مثل فنلندا” تجربة التدريس في فنلندا، وصف المنهج الفنلندي بصفات ست جمعها في كلمة (SIMPLE)، وهي الأحرف الأولى من كلمات: Sensible (معقول)، وIndependent (مستقل)، وModest (متواضع)، وPlayful (مرِح)، وLow-stress (منخفض التوتر)، وEquitable (عادل)، ولخص ذلك بالآتي:
- معقول: منهج خفيف مليء بفترات الاستراحة، بواقع 15 دقيقة حرة بعد كل 45 دقيقة تعلُّم.
- مستقل: يتمتع الطالب بقدر كبير من الاستقلالية داخل الفصل؛ حركته، حواره مع معلمه، تعاونه مع زملائه، وتشكيل فرق عمل جماعية.
- متواضع: عدم اشتراط توفير أفضل التقنيات وأرفع الميزانيات لتطوير التعليم، فمن خلال منهج متوازن يراعي الطالب؛ يمكنك أن تكون الأفضل في العالم.
- مرح: يبدأ الطالب التعلم في سن السابعة، وقد قضى طفولته السابقة باللعب، فيدخل المدرسة ليدرس 3 ساعات في اليوم فقط، مليئة بالتعلم من خلال اللعب، ويقضي باقي وقته في المدرسة في اللعب أيضًا، ثم يرحل باكرًا من المدرسة ليلتحق بناديه ليستكمل اللعب. هذه قوة اللعب.
- منخفض التوتر: بيئة التعلم داخل المدرسة وبعد المدرسة يجب أن تكون هادئة ومريحة، ولا تتطلب إضفاء أجواء توتر وإجهاد. الهدوء والاسترخاء مطلبان مهمان للتلميذ والمعلم معًا.
- عادل: لا يهم أين تسكن، فأنت دائمًا قريب من المدرسة التي ترغب فيها. لا توجد شروط تعقد قبول ابنك بالمدرسة المطلوبة، هذا حق للجميع.
إن المنهج الفنلندي يحترم النزعة الحركية للطفل، ويتجاوب مع فطرته بمزيد من الألعاب التعليمية والمساحات الحوارية والتعبيرية مع المعلم، وهذا ما جعل شركة «Angry Birds» (شركة فنلندية) تسعى لتصميم ألعاب تشرح المسائل العلمية من خلال المغامرة والترفيه.
ويطرح أركان العملية التعليمية باختصار:
- الطالب: لا حاجة لتعليمه كل شيء مبكرًا، ومهمتك أن تحفز فضوله الطبيعي نحو التعلم حتى يكبر، ويختار تخصصه المناسب.
- المعلم: خفف عنه العبء المطلوب منه تدريسه، وامنحه الثقة، وأعطه صلاحيات أوسع لحل المشكلات اليومية دون الرجوع للإدارة.
- المنهج: قدِّم مناهج عملية تركز على مهارات اجتماعية وإدارية، ونظرية تراعي الفروق الفردية بين الطلبة، وعلم جزء من المنهج من خلال المسابقات الفردية والجماعية داخل المدرسة.
هذا ملخص تقرير صحفي حول التعليم الفنلندي، نشرته بعض المواقع الالكترونية، وليس بالضرورة أن ما يناسب غيرنا يناسبنا، المهم أن نستفيد من تجارب الآخرين، ولو بشكل جزئي، حتى نستطيع الارتقاء بالتعليم في بلادنا.