في لقاءٍ حضرتُه منذ سنوات في بعض المساجد، وكان الحضور من الألمان المسلمين وغير المسلمين، وفيه قدَّم أحد الأخوة محاضرة لأكثر من ساعة، دارت حول علامات الساعة الصغرى، وتملَّكني الحزنُ والدهشةُ من اختيار هذا الموضوع الذي لا يناسب الزمان ولا المكان ولا طبيعة المخاطَبين، وقلتُ ألم يدرك الرجل بَعْد أن القوم اقتحموا الفضاء وارتادوا آفاقه وهيمنوا بالعلم والإرادة على البر والبحر والجو؟!
إن قائمة الموضوعات التي يحتاجها الأوروبي طويلة، ونستطيع نقدم رؤيتنا الإسلامية لها بما يثير القبول والإعجاب فلماذا نجنح للغرابة؟! لمَّا فَرَغَ الأخ الكريم من محاضرته سألتُ مَنْ بجانبي -وهو ألماني غير مسلم- عن انطباعه، فأشار إليَّ أنَّ الخوف قد ملأه، وحُقَّ له ذلك، فماذا بقي للمرء بعد هذا الحديث الذي يُنذر السامعين أن القيامة قريبة الوصول، وعلى كل أحد أن يَدَع ما في يده ويتهيأ لمفارقة الحياة والأحياء، فقلتُ: إن المحاضر لم يقصد ذلك، لكنَّ طريقته في الحديث والشرح تُلقي في رُوع السامع حالة من التشاؤم والقعود.
لقد أجاب القرآن عن سؤال أحدهم للرسول صلى الله عليه وسلم سائلا عن موعد القيامة، فنقلنا القرآن في بيانه من علم لا ينبني عليه عمل إلى السعي والتأهب والاستعداد، فقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {187}) (الأعراف).
ولمَّا سأل رجل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال له: وماذا أعددت لها؟ وحينما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الآجال والأرزاق معلومة محدودة سأل بعض الصحابة: ففيم العمل؟ فأرشدنا إلى ضرورة العمل وفق قوانين العالم المنظور، فقال: اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له، ومن هنا نعلم أن البيان النبوي الشريف يتوجه لما ينبني عليه عمل ويصرف الجهود الذهنية والبدنية للبناء والغرس، ولعل من أشهر الأدلة على ذلك حديث الفسيلة، فعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةً فإنِ استَطاعَ ألا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها” “صحيح الأدب المفرد”
الأوروبيون وحديث الفسيلة
إنَّ من اللافت للنظر أن تجد كثيرا من غير المسلمين يفقهون حديث الفسيلة تطبيقًا عملياً دون أن يسمعوا به، وتَجَوَّلْ هنا – إن أردتَ- في معظم المدن الألمانية والأوروبية في عطلة الأسبوع على ضفاف الأنهار أو الطرق الممهودة وسط الحدائق الكبرى، ستجد أنَّ كثيرا من المُعَمِّرين قد توشحوا بملابس الرياضة في جاهزية كاملة، ثم هم يقطعون المسافات ركضاً أو سيْرًا رشيقا على الأقدام، أَعْلم جيدا أن الظروف ونظام المجتمع والحقوق والعدالة الاجتماعية هنا تلعب دوراً كبيراً في تنميط الحياة بصورتها التي نراها، بخلاف ما عليه الحال في معظم دول العالم الإسلامي المنكود بحكم الطغاة الظالمين.
كنت أتعجب في بداية قدومي لألمانيا عندما أرى رجلاً ميسور الحال وإذ به يغسل سيارته ويصلح بيته، وينظف حديقته، فأقول إن بعض الرجال من العرب يتخذون السيارات الفارهة، والبيوت الفخمة، ليستطيلوا بها على الخلْق، ويَعتبرون مسلك الرجل الأوروبي السابق مَنْقَصة، فأي الفريقين أقرب لهَدْى الإسلام ولخُلق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فقد أُثر عنه أنه كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويحلب شاته، ويردف خلفه، ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد ويأبى أن يحمل متاعه أحدٌ غيره ويقول: صاحب الشيء أولى بحمله، وورد عن صَحْبه الكرام العجب العاجب فقد كان الصديق أبو بكر رضي الله عنه يحلب لأسرة فقيرة، وبعد أن وَلِىَ الخلافة ظنوا أنه أصبح في شُغل عنهم، لكنه غدا إليهم ولم يقطع عادته عنهم في العون والرِّفد.
عندما تغيبُ الأولويات
لا أنسى يوم أن دخل أحد الألمان الإسلام وصلى معنا صلاة المغرب، وبعد الفراغ من الصلاة رأيت أحد المتطوعين يُهرول نحوه ويهمس في أذنيه، قلتُ لعله يُثَبته بكلمة أو يهنئه على حياة جديدة، وسألته بماذا كنت تنصحه؟
فقال: قلت له معلومة مهمة!
قلت ما هي: قال قلت له إن الله أرسل إلى الناس أكثر من 100 ألف نبي ورسول وليس فقط من ذكرهم الله في القرآن الكريم!
قلت: وما قيمة هذه المعلومة والرجل بَعْد في بداية الطريق؟!
وتذكرت ما قاله شيخنا الشيخ محمد الغزالي في كتابه “مستقبل الإسلام خارج أرضه كيف نفكر فيه؟”، يقول: “وكثيراً ما نبهت إلى أنَّ الأوروبيين يهتمون بالأصول لا بالفروع، وأنهم يَزِنون النهضات بثمراتها المادية والأدبية معاً، هم لا يكترثون للياباني إذا أكل الأرز بالأقلام أو بالعصي، إنما يرمقونه بدهشة وهو يبدع الأجهزة أو وهو يقلدهم في عمل، ويصل بعقله اللمَّاح إلى أبعاده، ثم يسبقهم إلى إنتاجه، لكن كثيرا من مسلمي العصر الحاضر جمعوا شُعَب الإيمان في خليط منكر، كبَّروا فيه الصغير، وصغروا الكبير وقدَّموا المتأخر وأخروا المتقدم، وحذفوا شعبا ذات بال، وأثبتوا محدثات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فأصبح منظر الدين عجباً”.
في عالم البناء المعماري لا يمكن أن تبدأ في تشييد قصر أو بناء كبير بوضع النوافذ والأبواب والجدران قبل العماد وهو الأساس، وكلما كان البناء عاليا كبيرا تطلَّب أساسا راسخا متينا، وتتغير المواصفات أحيانا لتغير الظروف البيئية، ففي اليابان الأمر مختلف حيث تتعرض للزلازل بشكلٍ كبيٍر وهذا من شأنه أن يفرض مواصفات وتراتيب أخرى، كذلك بناء المسلم يجب أن يتم إعداده روحيًا وإيمانياً وفكرياً لمغالبة الظروف ومواجهة التحديات المختلفة، وهذا ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أعظم جيل أشرق عليه ضوء النهار، حيث بدأ ببناء الإيمان أولا في صدورهم فسهلت عليهم بعد ذلك التكاليف.
روي البخاري بسنده عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، إننا في ميدان الدعوة والتربية نعانى من الخلل في أولويات البناء وترتيب التكاليف الشرعية، فما قيمة الهدى الظاهر إذا كان سيجلب على المسلم المتاعب، وما لا طاقة له به؟!
دخل الإسلام مهندس ألماني يعمل في شركة كبيرة، وبعد شهرين رأيته قد أطلق لحيته، وغدا يصلى وهو يلبس الجلباب الأبيض وعمامة فوق رأسه، وسألته عن عمله وعلاقته بزملائه، فأخبرني أنه يتعرض لمضايقات قلت ما السبب؟
قال: إنني أصوم الاثنين والخميس وأصلى بالشركة وأحيانا أرفع الأذان!
قلت: يكفيك الصلاة إن تيسر لك أداؤها في العمل لكن لماذا تستفز القوم؟
تَرَفَّق بنفسك وبمن معك، ما أحوجنا إلى منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتربية، روى البخاري من حديث ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتُرد في فقرائهم.
وهنا نجد بوضوح كامل فقه التدرج، والانتقال من تكليف لآخر بحسب الجهد والطاقة، نعم لقد اكتمل الوحي ولا حذف منه ولا نقص، وهناك فرق بين التدرج في التشريع والتدرج في التطبيق، فقد يقرر الطبيب علاجا معينا أو يصف دواء نافعا ويكون صريحا واضحا مع مريضه، لكنه يراعي حالته وظروفه عند التطبيق، كذلك علينا أن نتعامل مع المهتدين الجدد بنفس الفقه، لمَّا أسلمت امرأة وهي على مشارف شهر رمضان انتابها خوف من الصيام حينما سمعت بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم:” من أفطر يوما في رمضان من غير رخصة رخصها الله له لم يقضه صيامه ولو صام الدهر كله “فالمرأة لا عهد لها بعبادة فيها مشقة ظاهرة، وهى بَعْد لم تَخبر من الإسلام وخصاله ولا من الإيمان وحلاوته ما يُجلي لها مقاصد تلك العبادة ، فقلنا: علينا أن نتعامل معها برفق، وننزلها منزلة الطفل في التدريب على الصوم، ومنزلة البالغ في القضاء، فنقول لها: صومي ما استطعتِ فإن شق عليكِ فأفطري ولا حرج، وأعيدي من أيام أخر تكون أيسر عليك.
إن باعة الفاكهة ومن يعتنون بالأشجار في الغابات والحدائق في ألمانيا يحصلون على تكوين علمي يؤهلهم للقيام بالمهمة الموعودة، فما بال الإسلام نتحدث فيه بجرأة يتعجب منها أكابر الصحابة الكرام؟ إن الظروف والأحوال التي تكتنف حياتنا متفاوتة بين شخص وآخر، وإن قدراتنا على مغالبة الصعوبات وتجاوز العقبات ليس على مستوى واحد، هناك من يستخفي بقناعاته، وهناك من يخوض لها البحر ويصدح بها في الآفاق حتى يُسمع الأصم، وهذا الصنف في الناس قليل، فمن يطيق تقليد الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه في هجرته؟
لا أنسى ذلك الشاب الوضيء ذا السبعة عشر عاما – البرتغالي الأصل – حينما دخل في الإسلام وكيف كان يصلى في بيته خُفْية حتى لا تعلم أمه به، كان إذا أراد الصلاة أغلق عليه بابه ثم صلى، وفي يوم نسى أن يغلق الباب وبينا هو في الصلاة يرفع يديه ليهوي إلى الركوع إذ بأمه تفتح الباب، فكيف تصرف الشاب؟ أراها أنه يمارس حركات رياضية كما في تمارين رفع اليدين لأعلى ثم النزول بهما لأسفل، وهكذا انطلت الحيلة عليها ونجا من بائقة معرفتها بإسلامه.
_______________________________________________
(*) رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا، والمقال منقول من “مدونات الجزيرة”.