نتناول في هذه الحلقة الأخيرة المقولة الخامسة من المقولات المؤسسة للمشروع الفكري الإصلاحي عند إسماعيل الفاروقي, ما يتعلق بمقولة “التوحيد مبدأ النظام الاجتماعي”, ونوضح فيها تمايزات الرؤية التوحيدية لتأسيس المجتمع, ومغايرة الرؤية التوحيدية لكثير من المنظورات الاجتماعية القائمة, كالرؤية اليهودية والمسيحية والعلمانية الحديثة.
الإسلام ومعطيات الزمان والمكان
الإسلام وثيق الصلة بكل معطيات الزمان والمكان، وهو يسعى لضبط كل ما يتعلق بالتاريخ وبكل المخلوقات بما فيها الجنس البشري، ويعتبر كل ما هو من الطبيعة بريئَا وخيرًا ومرغوبًا فيه بذاته، ولا يمكن تأسيس التقوى ولا الفضيلة على إدانته. ويريد الإسلام من البشر أن يسعوا في الأرض للحصول على طيباتها من مأكل ومشرب ومأوى وراحة، وأن يحولوا العالم الدنيوي إلى جنة، وأن يتمتعوا بالمعاشرة الزوجية وبالصداقة وبطيبات الحياة، وأن يطوروا العلوم، وأن يتعلموا، وينتفعوا بالطبيعة، وأن يترابطوا ويؤسسوا بنية اجتماعية سياسية، ويقوموا بكل تلك الأمور على الوجه الذي يرضاه الله فحسب، دون كذب ولا غش، ودون سرقة واستغلال، ودون ظلم للنفس وللجار، وللطبيعة والتاريخ. والسبب الدقيق لتسمية الإسلام الإنسان خليفة هو أنه يحقق إرادة الله تعالى، بقيامه بكل هذه الأمور على الوجه الصحيح.
ومعنى ذلك، أن الشطر الأعظم من أحكامه الشريعة الإسلامية يتعلق بالنظام الاجتماعي. وعلاوة على ذلك، فإن الجوانب الشخصية من الشريعة الخاصة بشعائر العبادات، وبالشعائر ذاتها، تكتسب في الإسلام بعدًا اجتماعيًا من الخطورة بمكان، إلى حد أن إضعافه أو إنكاره، يمثل تعطيلاً لها بحكم طبيعتها. والبعد الاجتماعي جلي في بعض الشعائر مثل الحج والزكاة، بحكم طبيعة تلك الشعائر وأثرها. وفي حين قد يكون البعد الاجتماعي أقل وضوحًا في شعائر أخرى، مثل الصلاة والصوم، فإن المسلمين مجمعون على التسليم بأن الصلاة التي لا تؤدي بصاحبها إلى هجر الشر، صلاة غير مقبولة عند الله، والحج الذي لا يحقق منافع اجتماعية للحاج غير كامل.
النظام الاجتماعي الإسلامي
منظور مغاير
إن الإسلام يرى أن كل تلك القيم تظل عقيمة هي والسعي إليها، ما لم يحقق من يتحلون بها زيادة فعلية في خير الآخرين وصالحهم في المجتمع. وتتفرع عن تلك الرؤية المعطيات التالية:
- المغايرة لأديان الهند: تنظر بعض الديانات خاصة الهندوسية والبوذية إلى الحياة الدنيا على أنها شر. وتنظر إلى نقيضها، أي إلى التحرر منها، على أنه هو الفلاح أو الخلاص. وعلاوة على ذلك، ترى تلك الأديان أن الخلاص شأن شخصي فردي، حيث إنها تعرف الخلاص بأنه حالة استنارة لا يمكن أن تكون شخصية. أما التفاعل مع معطيات الحياة الدنيا بهدف إثرائها وزيادتها، وتكثيف عملية التشيؤ في إطارها، فهي شر.
- المغايرة لليهودية: على الطرف المقابل من طيف الأديان، وعلى نقطة تكاد تمثل الضد تماماً من الأديان الهندية، نجد حالة العبريين. فهم كما يرون أنفسهم، وكما سجلت رؤيتهم تلك بكتابهم المقدس، التوراة، شعب مختلف عن الجنس البشري. فهم “أبناء الرب وبناته” وتقتضي العلاقة الخاصة بينهم وبين الخالق، تمييزهم عن بقية البشر. والشريعة المنزلة من الله تنطبق عليهم دون سواهم. والنظام الاجتماعي الذي تقيمه تلك الشريعة بأوامرها ونواهيها خاص بهم وحدهم. وديانتهم تلك ديانة قبلية يتحدد مفهوم الخير والشر فيها بالنفع والضرر القبلي.
ولهذا النظام الاجتماعي أساس بيولوجي. فاليهود هم فقط من يولدون يهودًا. وينبغي تثبيط غير اليهود بكل جدية عن التحول إلى اليهودية، وجعل مسألة التهود عند أدنى حد ممكن. وهذه صورة من عنصرية الجاهلية، مع خلوها من تقديس قيم المروءة والشجاعة والشهامة والكرم، المخففة من شرها التكويني. والتاريخ العبري كما رسمت صورته المثالية، أو كما تم إضفاء القداسة ببساطة عليه بالتوراة، وفي النبوءات وغيرها من الأدبيات التي تشكلت منها أسفار العهد القديم، مليء كما هو معروف بأضداد تلك القيم.
- المغايرة للمسيحية: مثلت المسيحية في مستهل عهدها بالوجود رد فعل على هذا التمركز اليهودي الرهيب حول الذات، الذي كان قد تيبس، لدى مجيء السيد المسيح عليه السلام، في شكل تقيد حرفي بالنصوص، لا علاقة له بروحها. ومن هنا كان لزامًا أن تكون دعوة عيسى عليه السلام عالمية، وشخصية، أي : موجهة إلى داخل الإنسان. وبلغت حساسية المسيح تجاه شرور العنصرية اليهودية حد الغضب تجاه أي اقتراح يشتم منه أدنى قدر من استحقاق أقاربه لأدنى قدر من التفضيل بسبب تلك القرابة.
ومن ناحية أخرى فإن المسيحية لا تمتلك أي نظرية واضحة عن الحياة الاجتماعية فإدانتها للزمان والمكان والعمل السياسي, وتحفظها بكل الأنشطة الدنيوية واعتبارها النظام الاجتماعي نفسه أمرا ثانويًا عديم الجدوى في عملية الخلاص, يحول بينها وبين أن تكون لها نظرية بهذا الصدد باستثناء اعتبارها النظام الاجتماعي شرا بالضرورة.
- المغايرة للعلمانية الحديثة: يمثل النظام الاجتماعي في الإسلام نقيضًا تامًا للعلمانية الحديثة، بكل جلاء. فالعلمانية الحديثة تسعى إلى نفي أي دور للدين في تقرير كل ماله علاقة بالشأن العام. وحجتها في ذلك كما تجسدت في التاريخ العلماني في الغرب، أن الدين يصب في مصلحة قطاع واحد في المجتمع هو الكنيسة، على حساب ما عداها. ولما كانت البنية الداخلية للكنيسة، وكذا عملية صنع القرارات فيها، سلطوية، ولما لم يكن المجتمع كله ممثلاً فيها، فإن تقرير الشئون العامة بواسطة الكنيسة، يرقى إلى مرتبة الطغيان، ويمثل شكلاً من أشكال الاستغلال والاضطهاد للشعب من جانب إحدى جماعاته.
التوحيد والمجتمعية
مقتضى الإقرار بأنه لا إله إلا الله، هو الإيمان به سبحانه وتعالى خالقًا ومالكًا وحكمًا للوجود كله بلا شريك. ويترتب على هذه الشهادة الإقرار بأن الإنسان خلق لغاية، بما أن خلق الله تعالى منزه عن العبث، وأن تلك الغاية هي تحقيق الإرادة الإلهية المتعلقة بهذا العالم الذي تتخذ منه الحياة البشرية مسرحًا لفعلها الحر المسئول. ويقتضي ذلك من المسلم النظر إلى الحياة بزمانها ومكانها بعين الجد، لارتباط فلاحه أو خسرانه بتمثله للسنن الإلهية المتصلة بالزمان والمكان الذي يحيا فيه. وأمره الله تعالى أن يقوم بتلك المهمة بالتعاون مع إخوانه من البشر. وتخضع حياة المسلم لرقابة توجيهية مستمرة في ظل التوحيد. فالله تعالى لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وكل ما يفعله الإنسان يسجل له إن كان خيرًا أو عليه إن كان شرًا. وإرادة الله وثيقة الصلة بذلك، والإنسان مأمور بمراعاة السنن الإلهية. بل إن غاية حياة الإنسان على الأرض هي تجسيد تلك السنن الإلهية في كل أرجاء المعمورة.
شروط تأسيس المجتمع الإسلامي
من الشروط التي يتمايز بها تأسيس المجتمع الإسلامي في ظل مبدئية التوحيد, ما يلي:
- أن المجتمع الإسلامي لا يستطيع أن يقتصر مطلقًا على أعضاء من أي قبيلة أو أمة أو عرق، أو جماعة. ومن الممكن، بل من المحتم بالقطع، أن يبدأ ذلك المجتمع في مكان ما بشخص ما. وبوسعه أن يفرض في فترة محدودة، وفي منطقة محددة، ما يتراءى له من قيود لاعتبارات استراتيجية. إلا أنه لا يستطيع أن يغلق باب عضويته أمام أحد من حيث المبدأ، ولا أن يخلد إلى الراحة إلى أن يشمل البشرية برمتها. بل إن ذلك المجتمع يكون قد خان سبب وجوده ذاته، إن هو منع أي إنسان من الانضمام إلى صفوفه. فكل إنسان مؤهل لتلك العضوية وله الحق فيها بحكم خلقه ومولده على الفطرة.
- ضرورة توسع المجتمع الإسلامي إلى أن يشمل الجنس الإنساني كله: لا يهدأ لهذا المجتمع بال إلا إذا سعى إلى ذلك، ونجح في تحقيق مراده. ذلك أن دعوى المجتمع إسلاميته واستقاءه شرعيته من الإسلام، مرهونة بإيجابيته في الاستجابة لما يدعوه الله إليه. ولنقرأ هنا قول الله تعالى:) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( [البقرة : 285].
استوعب المسلمون النتيجتين سالفتي الذكر، وتمثلوهما بكل معنى الكلمة، طيلة تاريخهم. فالقرآن الكريم يقرر بلا مواربة أن كل البشر منحدرون من آدم وحواء. ويؤكد على أنهم تكاثروا مشكلين شعوبًا وأممًا. ويطالبهم بالتعاون فيما بينهم، وبأن يثري كل منهم الآخر ويشد من أزره. وعلى لسان كل مسلم تتردد هذه الآية وأمثالها. وبالقرآن الكريم آيات تفوق الحصر تؤكد على فلاح الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو المتقين والصالحين، واستثنائهم من سوء المصير، ومن الُخسر الذي يلحق بغيرهم من البشر. وبالمثل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس كلكم لآدم، وآدم من تراب. لا فضل لعربي على أعجمي، إلا بالتقوى والعمل الصالح”.
وتتعارض القبلية والقومية، بجلاء مع هذه المبادئ الضمنية التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. وهما متماثلتان في أسهامها، وإن كل مفهوم القبيلة قد يشير إلى كيان أصغر وأكثر محدودية من مفهوم القوم. وتدعي كل من القبلية والقومية، أن القيمة قاصرة على أعضاء جماعة واحدة فحسب، لكونها بزعمهما، هي التي أضفت عليها هذا الوصف، وهي صانعها ومصدرها. ويخول منطق مثل هذا الزعم، كل جماعة أخرى الحق في وضع معيار خاص بها، وقيمة خاصة بها، لو أرادت، في ضوء حقيقة أن أي تجمع إنساني لا يقتصر على جماعة واحدة. ولما كان معيار القيم الأسمى من صنع الجماعة – وفق هذا التصور – فإن بوسع أي عدد من البشر الانتظام في جماعة، وادعاء مثل هذا الحق. ومن ثم، فإن النسبية تستدعي التعددية بالضرورة. ويترتب على ذلك اختلاف وتفرق حتمي، دون توفر ناظم عام دائم ملزم لمختلف الجماعات المتخاصمة المتصارعة. وحين لا تسوي الخصومات بالتماثل العرضي بين وجهات نظر أطرافها، أو بقبول جماعة بالامتثال الطوعي لإرادة جماعة أخرى، يصير الصراع حتميًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
المسئولية المجتمعية
المتضمن العملي الثالث للتوحيد بالنسبة للمجتمع هو: مبدأ المسئولية. فالكلية معرضة على الدوام لأن تنقلب إلى شمولية بسلب نزعة الانضباط الصارم والجماعية جهد المجتمع الرامي إلى تحقيق قيمة أخلاقية. وتتولد من ثم الحاجة إلى مبدأ أخر لحماية المجتمع من التردي في مثل هذا المحظور. وفي هذا الصدد يعلمنا الإسلام أن كل إنسان: مكلف، أي مطالب بالسعي لتحقيق المشيئة الإلهية. وهذا التكليف مبنى على الفطرة التي خلق الله الإنسان عليها، والتي تمثل القاسم المشترك بينه وبين أي إنسان آخر.
ومن هنا لا يقف الإسلام عند حد تقرير أن كل إنسان مكلف مسئول، بل ينفي بشكل قاطع سقوط التكليف عن أي إنسان، ما دام ليس طفلاً أو عاجزًا بشهادة أهل الاختصاص. وينتظر الإسلام من كل فرد مكلف أن يتحمل حمله الشخصي بوعي كامل، ويقدر مكانته بقدر وفائه بمسئوليته.
وهذه المسئولية هي جوهر الأخلاقية. وتنتفي القيمة الأخلاقية لأي فعل في غيابها، ولا يتحقق الشق الأسمى من الإرادة الإلهية بدونها. ومن ثم فإن غيابها يعني إبطال الإرادة الإلهية. والإله التي يتسامح مع مثل هذا الإهدار لإرادته ليس هو الرب الواحد الأحد الفرد الصمد الذي يعرفه التوحيد الإسلامي.
من ناحية أخرى تنبع المسئولية في الإسلام من رؤية أخلاقية، أي من إدراك القيم، وما توجبه على صعيد ما ينبغي أن يكون وعلى صعيد ما ينبغي فعله، وفق سلم أولوياتها الصحيح. ولما كان من الممكن إكراه شخص على فعل شيء ما، في حين لا يمكن إكراه شخص على إدراك شيء ما، فإن المسئولية الأخلاقية تقدم للإنسان الضمانة الخاصة بها. فعندما يتعرض الإنسان للإكراه تنتفي مسئوليته، وتكون الأخلاقية قد انتهكت في واقع الأمر. ومع التسليم باستحالة الإكراه في دائرة إدراك القيم، فإنه يمكن الحض على الفضيلة عبر تعليمها بمفهومات أو بمدركات أو عبر المنطق، أو بواسطة القدوة الحسنة. وفي ضوء ذلك تتحدد وظيفة المجتمع الإسلامي بمساعدة الجنس البشري كله على إدراك القيم، ثم على تجسيد القيم التأسيسية للإرادة الإلهي في أرض الواقع، بعد إدراكها. وهذه هي التربية في أنبل وأعظم معانيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ أصول التربية المساعد ـ جامعة دمياط ـ مصر.