يعيش إقليم كردستان شمال العراق، الذي يتمتع بصلاحيات حكم ذاتي واسعة النطاق، أزمة اقتصادية مستحكمة بسبب الخلافات بين حكومة الإقليم وحكومة المركز حول إدارة ملف الثروة النفطية، حيث استقل الإقليم بالتصرف في آبار النفط الواقعة ضمن حدوده الإدارية، وهو ما دفع الحكومة المركزية إلى قطع الميزانية الاتحادية بهدف الضغط على الإقليم لتسليم عائدات النفط لها.
وتوصلت حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، نهاية عام 2019، إلى تفاهم مع الإقليم لتسوية الخلاف، وقال وزير النفط في الحكومة السابقة ثامر الغضبان: إن اتفاقاً تم مع حكومة أربيل يقضي بتسليم الإقليم نفطه إلى شركة “سومو” الحكومية اعتباراً من بداية عام 2020، بواقع 250 ألف برميل يومياً، من أصل 450 ألفاً منتجة، مقابل تفاهمات تسمح بوضع حصة للإقليم في موازنة البلاد، إلا أنه عاد وأعلن في مارس الماضي أن الإقليم لم يفِ بالتزاماته وفق الاتفاق، ولم يسلم نفطه إلى الشركة الحكومية.
قطع الرواتب
وبهدف الضغط على الإقليم، قطعت حكومة بغداد رواتب الموظفين الشهرية، والبالغة 453 مليار دينار عراقي (نحو 380 مليون دولار) شهرياً، الأمر الذي تسبب بأزمة اقتصادية خانقة أنشأت تذمراً اجتماعياً على نطاق واسع.
وقد أطلق نشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي نداءات للتظاهر ضد ما وصفوه بـ”الفساد وارتفاع الفقر والتقصير الحكومي وتأخر صرف المرتبات”.
وقد تفاعل المئات من المتظاهرين مع هذه دعوات، حيث شهدت مدينة السليمانية، ثاني أكبر محافظات إقليم كردستان العراق، تظاهرات واسعة في عدة مناطق أمس الأربعاء، تخللها اقتحام مقرات لأحزاب سياسية، ردد فيها المتظاهرون شعارات ضد تأخر دفع المرتبات منذ نحو 3 أشهر، وبسوء الأوضاع المعيشية، فيما منعت قوات الأمن في عاصمة الإقليم أربيل المتظاهرين من الخروج للشوارع.
وتوزعت التظاهرات على مناطق عديدة في محافظة السليمانية، شملت مركز المدينة، وأقضية حلبجة ورانيا وقلعة دزة، وقبيل غروب الشمس شهدت التظاهرات مواجهات في بعض المناطق مع قوات الأمن، ولم يتم التبليغ عن أي إصابات بين المتظاهرين وقوات الأمن التي حرصت على عدم استفزازهم تجنباً لاتساع نطاق التظاهر.
الصحفي الكردي فارس السنجاري، يرى أن التظاهرات التي خرجت كانت متوقعة بعد أن عجزت الحكومة عن دفع الرواتب لثلاثة أشهر متوالية.
وقال السنجاري لـ”المجتمع”: ما يحدث اليوم ينذر بتكرار سيناريو تظاهرات ديسمبر 2017، حيث تظاهر عشرات آلاف الأشخاص بعد أن استحكمت الأزمة الاقتصادية وقطعت الرواتب، وأحرق بعضهم مقرات حزبية وأمنية في محافظة السليمانية، وقتل 5 محتجين برصاص قوات الأمن وأصيب نحو 80 شخصاً حينها.
وأضاف أن الوضع مرشح للانفجار في الإقليم، لأن الأزمات جاءت متوالية بدءاً بانخفاض أسعار النفط العالمية، مروراً بأزمة كورونا، وانتهاء بالخلافات مع الحكومة المركزية، كل هذه الأزمات من وجهة نظر الصحفي الكردي، جعلت الوضع الاقتصادي يتهاوى ولم يعد المواطن قادراً على التحمل، ولعل هذا ما يفسر سبب إقدام المتظاهرين على إحراق مقرات الأحزاب الحاكمة التي يحملونها مسؤولية الأزمة ويتهمونها بالفساد.
وأشار سنجاري إلى أن متظاهرين اقتحموا، أمس، مقراً لحزب التغيير في بلدة رانيا، كما هاجموا مقراً للحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في بلدة قلعة دزة؛ وهو ما تسبب بوقوع صدامات بين قوات الأمن والمتظاهرين، ولا معلومات حتى الآن عن وجود إصابات بسبب التكتم الإعلامي الذي تحاول السلطات فرضه على المظاهرات.
وعن سبب عدم خروج مظاهرات في عاصمة الإقليم أربيل، قال سنجاري: إن قوات الأمن منعت أي تجمعات للتظاهرات بعد أن علمت بوجود دعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهددت باعتقال وملاحقة أي ناشط يدعو إلى أي تظاهرة في شوارع المحافظة كافة.
مطالبة بالإصلاح
المتظاهرون طالبوا الحكومة بجملة مطالب، من بينها حل نفسها وإجراء انتخابات مبكرة، وقال بيان لمجلس تنظيم وإدارة “تظاهرات 12 من آب” في كردستان: إن مطالب المتظاهرين هذه المرة تختلف عن المطالبات السابقة، لأننا نعتقد أن حكومة إقليم كردستان ليست لها القدرة على الإصلاح.
وأضاف البيان: بالنظر إلى جميع المحاولات السابقة، والفرص المقدمة إلى السلطة الواحدة تلو الأخرى، فقد لخص مجلس تنظيم وإدارة تظاهرات 12 من آب، مطالب المتظاهرين وهي، حل حكومة إقليم كردستان والاستعداد لإجراء انتخابات مبكرة في موعد أقصاه 6 أشهر.
وطالب البيان بتشكيل حكومة موقتة لإدارة الانتخابات المقبلة، داعياً إلى حل مفوضية الانتخابات الحزبية الحالية في إقليم كردستان وتشكيل مفوضية مستقلة برعاية الأمم المتحدة.
كما دعا البيان إلى حل مجلس القضاة في إقليم كردستان وتشكيل مجلس آخر بمشاركة قضاة مستقلين، وإبعاد النظام القضائي عن التدخلات الحزبية.
وطالب البيان المواطنين بعدم قبول الأوضاع الراهنة في إقليم كردستان، وعدم السكوت أمام الظلم الممارسة بحقهم.
وختم البيان بالقول: الآن حان الوقت لكي نتكاتف جميعاً يداً بيد للنزول إلى الشوارع والمطالبة بحقوقنا، ولكيلا ننسى فإن أي أمة لا تستعد لدفع ضريبة حريتها مرة واحدة، فمصيرها سيكون الذل والمهانة مدى العمر.
الحكومة تبرر
لم تكتف حكومة إقليم كردستان العراق بالإجراءات الأمنية في مواجهة التظاهرات، بل سعت إلى تقديم المبررات أمام الرأي العام وإخلاء مسؤوليتها عن الأزمة، حيث عقدت في أربيل اجتماعاً طارئاً، أمس الأربعاء، بحثت فيه مستجدات الأزمة الاقتصادية ومشكلة تأخر الرواتب.
وفي أعقاب الاجتماع، صدر بيان عن الحكومة قالت فيه: لم نبق على مسوغ دستوري وقانوني إلا وقدمناه إلى بغداد من أجل الوصول إلى اتفاق، وقد وافق الإقليم على جميع شروط الحكومة الاتحادية في إطار الدستور، غير أن الحكومة الاتحادية وللأسف لم تبد، ومنذ أكثر من ثلاثة أشهر، أي استعداد لإرسال الجزء الذي كانت ترسله من الرواتب، مما أدى إلى عدم تمكن حكومة الإقليم من صرف المستحقات المالية للموظفين، وألقى ذلك بظلاله وآثاره السلبية على الوضع المعيشي بالنسبة لمستحقي الرواتب في خضم الوضع الصحي الشاق الذي يواجه الإقليم.
وأضاف البيان: أن هذا التوضيح موجه من حكومة إقليم كردستان لمواطني الإقليم الغاضبين من جراء توقف صرف المرتبات منذ عدة أشهر؛ ما أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية في الإقليم بشكل واضح خلال الأسابيع الأخيرة الماضية.
الناشط الحقوقي زياد اللهيبي، اعتبر أن بيان الحكومة محاولة لإلقاء الكرة في ملعب حكومة بغداد، في مسعى منها لتوجيه الغضب الجماهيري نحو الحكومة المركزية.
وأضاف اللهيبي أن الوضع في عموم العراق سيئ للغاية، بعد أن أفلست خزائن الدولة، نتيجة تراجع أسعار النفط، وجائحة كورونا، وانتشار “مافيا” الفساد التي نهبت ثروات البلاد منذ عام 2003، حسب تعبيره.
وتابع: صحيح أن مشكلة المركز مع إقليم كردستان تكمن في تفرد الإقليم بالتصرف في الثروة النفطية، لكن هذه المشكلة لم تأتِ من الفراغ، بل هي بسبب التحالف بين القوى السياسية الشيعية والقوى الكردية بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، وعندما كتب الدستور في عام 2005 وضعت عبارات فضفاضة وقابلة للتأويل فيما يتعلق بكيفية التصرف بالثروات السيادية، حيث فسرها الإقليم تبعاً لمصالحه، واعتبر أن له الحق في التصرف بالثروات بعيداً عن المركز.
اللهيبي استدرك بالقول: بعد أن تفاقمت الأزمة وأصبحت مستعصية على الحل، ودخلت فيها شركات نفطية أجنبية صارت طرفاً في الأزمة بعد أن استثمرت ملايين الدولارات، سعت الحكومة المركزية لإصلاح الأوضاع بعد أن اتسع الخرق على الراقع.
وتوقع الناشط الحقوقي أن تتدخل الولايات المتحدة في حل الأزمة بين الطرفين، فهذه الأزمة ليست جديدة، بل هي تتكرر كل عامين أو ثلاثة، وتحل في كل مرة عبر تدخل أمريكي لا يقدم حلولاً نهائية، إنما يساعد بالوصول إلى حلول مؤقتة، فمن مصلحة الأمريكيين أن يستمر هذا الخلاف بين الطرفين.
تجدر الإشارة إلى أن العراق هو ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، بمتوسط يومي 4.5 مليون برميل يومياً، ويعتمد بنسبة 95% على عائدات النفط في تغطية الميزانية السنوية.