اشتهرت موريتانيا منذ فترة بأنها تمتلك ثروة معدنية متنوعة وواعدة تقول الحكومة إنها تزخر بمقدرات معتبرة يزيد عددها عن 900 عنصر معدني، منها: الذهب والحديد والنحاس، ومع ذلك فإن نسبة كبيرة من الموريتانيين “فقراء”، ولا يحصلون على الخدمات التعليمية والطبية والأمنية المرْضية بالنسبة لهم، ويعانون من البطالة التي تُمثّل كابوساً حقيقياً، رغم استفادة الشركات الدولية من الثروة الموريتانية الهائلة بما فيها القطاع المعدني.
وقد دفعت هذه الحالة -التي تعكس تناقضاً صارخاً بين الواقع والثروات- البعضَ إلى وصف موريتانيا بأنها “بلدٌ غنيٌّ وشعبٌ فقيرٌ”، ذلك أن الشعب الموريتاني (4 ملايين نسمة) لا يستفيد من ثرواته الهائلة بالقدر المطلوب، بل غالبًا ما تُوضع أمامه قيود وصعوبات تحول دون ذلك، فتلجأ نسبة منه إلى ركوب قطار الهجرة عن الوطن، ويبقى آخرون يكافحون من أجل لقمة العيش.
وفي هذا التقرير، سنحاول تسليط الضوء على جزء واحد من جوانب الثروة المعدنية الموريتانية، أَلَا وهو التنقيب عن الذهب، الذي أصبح يُشكّل ركيزة اقتصادية وطنية مهمة وقبلةً للباحثين عن الثراء السريع، حيث أسالَ لُعاب الكثير من المواطنين، فمنهم من حقَّق حلمه، ومنهم من قضى نَحْبَه، ومنهم من ينتظر.
اهتمام دولي
الثروة المعدنية المتنوعة الواعدة التي تمتلكها موريتانيا جعلت بعض الشركات الدولية تُولي موريتانيا اهتماماً كبيراً، ففي موريتانيا توجد عدة مناجم أكبرها منجم تازيازت الذي بدأت شركة تازيازت عام 2008م توسعته كي يتصدر قائمة مناجم الذهب في العالم، وفي أواخر عام 2011م أعلنت شركة كينروس الكندية عن بدئها خطوات عملية من أجل جعل منجم تازيازت بالشمال الموريتاني ثاني أكبر منجم ذهب في العالم.
وكانت شركة كينروس الكندية قد ارتبطت بعقد مع الدولة الموريتانية يقضي بحصول موريتانيا على نسبة (3 %) فقط من عائدات الذهب المستخرج من المناجم الموريتانية، وبعد فترة من إبرام العقد اعتبرت موريتانيا أن نسبة (3%) لا تغني شيئاً مقارنة بالأرباح الكبيرة التي تجنيها الشركة من خلال استخراج المعادن في البلاد، هذا بالإضافة إلى انتقادات أخرى توجه للشركة، كالتركيز على العمالة الأجنبية وتلويث البيئة والمناخ.
وقد أولت شركات دولية أخرى اهتماماً ملحوظاً بقطاع المعادن في موريتانيا، ففي عام 2013م نشرت الهيئة الأمريكية للمسح الجيولوجي تقريراً مفصلاً عن خريطة المعادن في موريتانيا، ثم بدأت موريتانيا تهتم أكثر بتطوير قطاع المعادن وتنظيمه قانونياً، حيث أصدرت الحكومة الموريتانية في 28 مارس 2020م مرسوماً قانونياً يقضي بإنشاء شركة وطنية تُدعَى “معادن موريتانيا”، من أهدافها: منح التراخيص الضرورية، وتأطير المناجم التقليدية وشبه الصناعية، حسب المرسوم الحكومي.
حمى التنقيب
في العقود السابقة، كان الموريتانيون يتحدثون -من حين لآخر- عن وجود كميات كبيرة من الذهب في باطن صحرائهم الشاسعة، لكن دون أن تكون هناك عمليات تنقيب معلنة يقوم بها المواطنون، وفي عام 2008م بدأت موريتانيا رسمياً إنتاج الذهب بعد أن دخلت شركات دولية الاستثمار في المجال، وبلغ احتياطي موريتانيا من الذهب (25 مليون أونصة).
وفي الشهور الأولى من عام 2016م، كانت المفاجأة الذهبية الكبرى عندما أعلن شاب موريتاني عن اكتشافه لكميات من الذهب قُدّرت بحوالي (2 كلغ) في الشمال الموريتاني، وبعدها انتشرت حمى التنقيب عن الذهب في صفوف الموريتانيين، فانطلق “موسم الهجرة إلى الشمال”، وبدأ الموريتانيون يتهافتون على “هضبة الدواس” بشكل متسارع، وأصبحوا يرابطون على ثغور الذهب من أجل تحقيق حلم الثراء السريع، لكن الحكومة الموريتانية -حينها- فاجأتهم بمنع التنقيب، وطالبتهم بتسجيل ما لديهم من المعادن، ثم تعهدت بمنحهم رخص التنقيب عن الذهب لاحقاً.
ورغم كل ذلك، ظل الموريتانيون يمارسون عمليات التنقيب بطريقة أو بأخرى في مناطق التنقيب التي تزيد عن 10 مناطق، من أبرزها: هضبة الدواس، اگليب اندور، الشامي، وفي نوفمبر الماضي أعلن الرئيس الموريتاني الحالي عن فتح منطقة “الشگات” العسكرية التي تم إغلاقها 2010م بعد سلسلة هجمات شنتها القاعدة ببلاد المغرب، فبدأ حوالي 21 ألف منقب رحلة البحث عن الذهب في أعماق الصحراء الموريتانية، رغم صعوبة الجو وخطورة التنقيب وغياب الوسائل المساعدة على التحمل.
أجواء صعبة
رغم الجهود المبذولة لتحسين قطاع المعادن في موريتانيا، لا يزال المنقبون يعيشون في أجواء صعبة، ويستخدمون أدوات بدائية في التنقيب، ويفتقرون إلى الخدمات الضرورية كالمياه والصحة والاتصال الخلوي، وقد بدأت مؤخراً إجراءات جديدة لتحسين وضعية المنقبين، حيث أعلنت شركة “موف موريتل” 28 يناير الماضي عن انطلاق تغطيتها لمنطقة “الشگات”، التي تتركز فيها أنشطة التنقيب السطحي عن الذهب.
وفي حديث لـ”المجتمع”، قال غالي ولد إبراهيم، الأمين العام لاتحادية المنقبين بموريتانيا: إن التنقيب ركيزة اقتصادية مهمة لموريتانيا، وقد تأكدت الدولة مؤخراً من ذلك فقامت بتأسيس شركة خاصة بالمعادن، وقد فتح لنا هذا الاهتمام باباً جديداً، حيث أصبحنا نستثمر في مجال الذهب استثماراً صحيحاً، بعد أن كنا نمارس التنقيب من خلال مغامرات مجهولة النتائج والعواقب.
ولا تنتهي صعوبات التنقيب عن الذهب بمجرد الحصول على الحجارة التي يُتوقع أنها تتضمن كميات من المعدن الأصفر، بل هناك صعوبات أخرى تتعلق بتكاليف حمل تلك الحجارة إلى مدينة أزويرات الشمالية، من أجل طحنها والكشف عن نسبة الذهب الموجودة فيها، وقد انطلقت في فاتح فبراير الحالي (20 شاحنة) للمساعدة في تخفيض سعر نقل الحجارة المعدنية من مناطق التنقيب على صغار المنقبين.
وفي تصريح لـ”المجتمع”، قال محمد ولد بوطو، رئيس اتحادية مطاحن الذهب بموريتانيا: إن استخراج الذهب يتمّ من خلال مراحل عدة، فبعد حصول المنقب على كمية من قطع الحجارة المعدنية، يبدأ عملية الطحن والصفية، ثم ينتقل إلى عملية البيع التي لا تخلو من صعوبات ومضاربات أيضاً.
قتلى الذهب
لا يخلو طريق التنقيب عن الذهب في موريتانيا من حوادث وحفر ومطبَّات خطيرة تُتعب السائرين على الطريق الصعب وتودي أحياناً بحياة آخرين، فينتهي مشوارهم في أعماق بئر في صحراء شاسعة لا تتوفر على وسائل الإنقاذ السريع، فمن أبرز إجراءات السلامة خلال عمليات التنقيب أن يتم ربط حبل بأحد المنقبين كي لا يختفي في أعماق البئر، وترجع وفيات التنقيب إلى انهيار الآبار وغياب وسائل الإنقاذ والإسعاف. وقد أسفرت حوادث التنقيب عن عدد من القتلى والجرحى والمفقودين، ففي 15 يناير الماضي -مثلاً- تعرضت عدة آبار في منطقة “مجهر محمد سالم” لانهيارات أرضية أدت إلى وفاة منقب وفقد آخر وجرحى، وفي 29 يناير الماضي تم انهيار بئر على ثلاثة منقبين، هذا بالإضافة إلى حوادث واعتقالات ومطاردات مع الجيش في السنوات الخمس الأخيرة.
تهريب المعدن
تحوم شبهات حول الذهب في موريتانيا، ويلاحظ بعض المراقبين تضارباً واضحاً في الأرقام المتعلقة بالمعدن في البلاد، ففي جلسة استماع عقدها البرلمان الموريتاني 26 يناير الماضي قال وزير البترول والطاقة والمعادن إن إنتاج شركة تازيازت سنة 2020م من الذهب بلغ (450 ألف أونصة).
وفي خطاب ألقاه أمام البرلمان 27 يناير الماضي عن حصيلة عمل الحكومة 2020م، قال الوزير الأول الموريتاني: “خلال سنة 2020م، أنتج الاستخراج الحرفي للذهب 5.600 كيلوغرام بقيمة تزيد على مليار أوقية، وخلق 45 ألف فرصة عمل مباشرة، وأزيد من 97 ألف فرصة عمل غير مباشرة”.
لكن المهندس الشيخ شكرود محمد صالح نشر يوم 2 فبراير الحالي مقالاً بعنوان “تهريب الذهب: هل موريتانيا استثناء؟”، ذكَّر فيه بما قاله الوزير الأول، ثم قال إنه لا شك أن هناك خطأ في الأرقام التي قدمها الوزير، فمعدل سعر الذهب في 2020م هو 1867 دولاراً للأونصة، مما يعني أن قيمة 5.600 كلغ هي حوالي 368 مليون دولار أي 129 مليار أوقية موريتانية (13 مليار أوقية بدل المليار الوارد في خطاب الوزير الأول).
كورونا والذهب
ورغم أن جائحة كورونا قد أصابت مختلف قطاعات الاقتصاد الموريتاني بالشلل، فإن الذهب تصدّر عائدات موريتانيا خلال عام 2020م، حيث جاء في تقرير أرفقته وزارة المالية مع مشروع المالية لسنة 2021م أن الذهب تصدر قائمة العائدات الوطنية خلال 2020م بملغ (780 مليون دولار) مقارنة بمبلغ (596 مليون دولار) عام 2019م، وجاء معدن الحديد ثانياً بملغ (564 مليون دولار).
وفي أواخر السنة الماضية، تحدث وسائل إعلام محلية ودولية عن انتعاش أسعار الذهب في موريتانيا، ثم أصبح عام 2020م عام الذهب بامتياز على المستوى العالمي، حيث أشارت تقارير اقتصادية إلى أن الذهب أنهى العام الماضي بأعلى إغلاق في تاريخه بـ (1900 دولار للأوقية)، مرتفعاً بنسبة 25 %، وقد جاء هذا الإغلاق التاريخي في ظل جائحة كورونا وبعد توقعات لخبراء الذهب خلال 2019م تفيد باستبعاد حدوث ارتفاع عالمي في عام 2020.
في الختام، يمكن القول: إن الذهب موجود في موريتانيا بكميات معتبرة، ويمثل مهنة مرغوبة لدى الموريتانيين لكنها محفوفة بالمخاطر، فدونها “إبر الصحراء” وتضاريسها المتنوعة ومناخها الصعب، وانهيار آبار التنقيب، وغياب الخدمات الضرورية، فهل ستنجح الحكومة الموريتانية في تذليل الصعاب وإزالة المخاطر المتعلقة بالتنقيب أم أنها ستظل قائمة، فيبقى المواطن الموريتاني بين مطرقة البطالة وسندان مخاطر التنقيب؟