الأساس في أعمال المسلم كلها أن يقصد بها وجه الله، وأن يرجو منها ثواب الآخرة، فما معنى قول الله في حديثه القدسي: “الصوم لي وأنا أجزى به”؟
قال العلماء: إن الصوم امتناع عن رغبات معينة، والامتناع عمل سلبي لا صورة له يظهر فيها، إنه ترك شهوات معروفة، والترك قد يكون تلبية لأمر الله، وقد يكون تقليدا لما يفعل الناس، وقد يقترن به من الشراسة ما يحبط الأجر، وعند بعض الرهبان والزهاد قد يكون تساميا شخصيا بالإرادة ومرانا على قوة العزيمة وقهر الجسد!!
لكن الصوم المقبول حقا هو أن يكبت المؤمن رغباته طالبا مرضاة الله، وسعيدا بطاعته إذ نزل على إرادته؛ ولذلك جاء في رواية البخاري “.. يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلى“!.
إن الصوم هنا ذكر عملي لله وجهاد نفسي للقرب منه، وتغليب لأشواق الروح على مطالب الجسم، ونزوع إلى السماء حين يخلد البعض إلى الأرض، وهزيمة لمنطق المادة الذي يصبغ الحضارة المعاصرة ويدفع الجماهير إلى عبادة الذات والملذات.
ومعنى هذا أن الصوم ليس ترك الأكل والشرب وحسب! كلا فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”. وقوله “الصيام جنة -يعنى وقاية من الإسفاف- فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم “.
إن الرغبة في الانتقام واقتصاص المرء ممن أساء إليه قد تكون شديدة لا سيما عند ذوي الكرامة والمهابة؛ فليكظم المؤمن غيظه، وليؤثر ربه وآخرته، لقد انتصر على شهوة الطعام فلينتصر على شهوة الانتقام!
وعندي أن الكذب والغيبة يبطلان الصوم، فهل الكاذب يقضي اليوم الذي كذب فيه، وكذلك المغتاب؟ يقول بذلك فقهاء الظاهر!
ولكن الأئمة يقولون إن أجره ضاع، وليس عليه قضاء! ووددت لو شددنا النكير على المفترين ومستبيحي الأعراض حتى تنقطع جراءتهم على الشهر العظيم ويحسنوا مهابته.
إن لرمضان في حياة أمتنا وتاريخها مكانة ينبغي أن تعرف؛ فهو العلاقة الروحية الباقية بين الله وخلقه، فيه نزل القرآن الكريم وفيه تتكرر مدارسته، وتستحب تلاوته ويضاء الليل بقيامه، وفيه تتأكد وحدة الأمة الإسلامية حين تفطر كلها بعد غروب الشمس، وتستعد بالسحور لصيام النهار، ورمضان في تاريخنا شهر ذكريات عسكرية تمتد من السلف الأول إلى هذا العصر، وأحسب أن إطلاق المدافع فيه عند الفطور وعند السحور إيماء إلى هذا التاريخ المكافح المحامي عن الحق.
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي:
1– أما واحدة فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ينظر الله عز وجل إليهم. ومن نظر الله إليه (أي نظرة حب لاستعداده ونشاطه) لم يعذبه أبدا…!
2– وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك (فتغير رائحة الفم من الجوع مستحبة عند الله، وعرق العامل أشرف من طيب العاطل!).
3– وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم كل يوم وليلة، (أي أن ملائكة الرحمة تحفهم داعية لهم بالمغفرة، والله سبحانه يستجيب دعاء ملائكته).
4– وأما الرابعة فإن الله عز وجل يأمر جنته فيقول لها: استعدى وتزيني لعبادي!، أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى دارى وكرامتي.
5– وأما الخامسة، فإنه إذا كان آخر ليلة كفر الله لهم جميعا! فقال رجل من القوم: أهي ليلة القدر؟ قال: لا! ألم تر إلى العمال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم “.
ومغفرة الذنوب تعنى أمرين:
الأول التجاوز عنها في الآخرة.
والثاني محو نكتها السوداء في القلب الإنساني، فيعود أبيض نقيا، والمؤمن يشعر بذلك المحو في نهاية الشهر بقوة اتجاهه إلى الله وحسن إقباله عليه.
نسأل الله صياما وقياما مقبولين مباركين.
——–
* من كتاب “كنوز من السنة” للأستاذ محمد الغزالي.