إن تراث الأمم هو أغلى ما تحرص عليه بعد إيمانها بمعبودها؛ إذ يحكي ماضيها الحافل بالأمجاد الحقيقية أو المصطنعة ويصور الحياة بحلوها ومرها، ويمثل بالنسبة للعقلاء موطن الاعتبار. والخاصية التي اختص بها تراثنا أن منبعه الوحي الإلهي وإن كنا التزمنا به حينا وحدنا عنه أحيانا.
وقد تعددت آراء الباحثين في تحديد بداية الاستشراق وعرفه بعضهم بأنه: “الدراسات الغربية المتعلِّقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام”(1)، وقد بدأت حركة الاستشراق حركة معرفية لكن ظهرت تيارات داخلها تقدم خدماتها لصانع القرار لكي يسيطر على الشرق.
جهود المستشرقين في التعامل مع التراث
1- اشتملت أعمالهم على نشر التراث، وتحقيقه وترجمته من العربية والتأليف في مختلف موضوعات العلم؛ فممن حقق التراث الفرنسي ليفي بروفنسال؛ حيث قام بتحقيق “الروض المعطار” للحميري، وممن حقق وترجم إلى جوار التأليف فرانز روزنتال الذي انصب اهتمامه على أعمال المؤرخين المسلمين؛ فحقق وترجم إلى الإنجليزية مقدمة ابن خلدون، وتاريخ الطبري، وكتاب “المختصر في علم التاريخ” لمحيي الدين الكافيجي، ودرّس هذه الأعمال في جامعة “يال” الأمريكية وأصدر دراسة معمقة عن “علم التاريخ عند المسلمين” ونشر فريتز كرانكوف أعمال شعراء الجاهلية.
2- وضعوا الفهارس المفيدة لما في المكتبات من مخطوطات، وأصدروا المجلات العلمية المتخصصة.
3- إنشاء المكتبات الخاصة بالمخطوطات وترميم التالف منها، ومما يؤسف له أن كمّا ضخما من تراثنا موجود في المكتبات الغربية ومكتبات الأديرة ومما آلمني أن أجد مخطوطة في الحديث أو التفسير في إحدى المكتبات المتخصصة في المخطوطات في العالم الإسلامي مدونا عليه: “نسخة مصورة من دير كذا” الخاصية التي اختص بها تراثنا أن منبعه الوحي الإلهي وإن كنا التزمنا به حينا وحدنا عنه أحياناً.
4- العناية بالعادات والتقاليد والفلكلور لدرجة أن إحدى المؤسسات الاستشراقية أرسلت باحثة لتجمع الرسومات التي تنقش على الحوائط ابتهاجاً بقدوم الحجاج من الأراضي الحجازية.
5- الدأب في البحث، ومن ذلك أن المستشرق الهولندي “سنوك هورجرونيه” عندما أراد أن يكتب عن مكة المكرمة سافر إليها وانتحل اسماً إسلامياً ليتمكن من دخولها لأنه مسيحي، وتمت هذه الزيارة عام 1884م وأقام فيها لمدة خمسة أشهر، وساعده على هذا أنه كان يجيد اللغة العربية كأحد أبنائها، وبعد رحلته هذه كتب عن مكة كتابين: الأول بعنوان “الحج إلى مكة”، والثاني: كان بعنوان “مكة وجغرافيتها في القرن التاسع عشر” في جزأين وصف مكة وصفاً دقيقاً وشاملاً مع الخرائط العديدة لها.
6- التأليف الجماعي، وخير مثال على ذلك “دائرة المعارف البريطانية”، وهي بمثابة جامع لجهود الاستشراق على امتداده، وقد تعددت جنسيات الكتاب فيها بين بريطاني وفرنسي وألماني ومجري وغيرهم، واعتنت الموسوعة بكل ما يتصل بالحضارة الإسلامية، دينيًّا، وسياسيًّا، وجغرافيًّا، وعلميًّا، وأدبيًّا، منذ عصر الجاهلية إلى العصور الحديثة، ورتبت على الحروف الهجائية.
ومن باب الإنصاف ينبغي أن نراعي عدة نقاط عند تقييم تعامل المستشرقين مع تراثنا:
– عدد الكتب التي أخرجوها محققة أو بدون تحقيق مقارنة بما يملكون هم ونملك نحن من التراث الزاخر بشتى ألوان المعرفة.
– تصنيف الكتب التي حظيت باهتمامهم نشرا وتحقيقا وإعداد دراسة حولها وفي أي فرع من فروع المعرفة وما قيمتها بالنسبة لغيرها في هذا اللون من ألوان المعرفة؟
– تقييم عملهم في تحقيق الكتب تقييما علميا(2).
ويمكن تقسيم مدارس الاستشراق بحسب الغاية المرجوة من ذلك التقسيم؛ فهناك التقسيم الذي يعتمد على الانتماء الجغرافي، وهناك التقسيم الموضوعي بحسب التخصص. ولئن سجلت الكتابات التي عنيت بالاستشراق الفوائد التي عادت على التراث الإسلامي مبالغة أو مقتصدة فلا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا الفوائد التي عادت على العالم الغربي من الاستيلاء على تراثنا من تأثر ثقافتهم القانونية بالفقه الإسلامي، ومن نهضة العلوم التجريبية عندهم بتطبيقهم لقواعد البحث العلمي، ومن نهضة العلوم الاجتماعية على إثر استفادتهم من نظريات علماء المسلمين وخصوصا ابن خلدون بل في مجال الأدب يبدو التأثر الواضح بين الأعمال التي حازت سمعة عالمية وأعمال أدبية عربية سبقتها بمئات السنين، ولعل الفرق يتضح عندما نقارن بين حالة الغرب قبل الاستيلاء على تراثنا وبعده.
ومن أهم المعوقات بين بعض المستشرقين وتراثنا:
– دراسة التراث منفصلاً عن الوحي؛ لأنهم لا يؤمنون به بل يعتبرون الدين ظاهرة بشرية ومن ثم تخضع لما تخضع له سائر الظواهر البشرية في القياس.
– عدم مراعاة الفارق بين البيئة التي ألف فيها التراث والبيئة التي نشأ فيها المستشرق.
– اللغة التي كتب بها التراث، فللتراث لغة لا يدرك أسرارها إلا من غاص في أعماقها وقد لا يصل إلى أغوارها كثير ممن ولدوا في العالم العربي بسبب تطور اللغة.
– الحقد الذي توارثه بعضهم والحقد يعمي ويصم ويدفع صاحبه إلى اختلاق الأباطيل وسوء التأويل ولا يمكن لحاقد أن يصل إلى الحق.
– تسببت الترجمات المشحونة بالأخطاء المنهجية والعلمية في تشكيل تصور مغلوط عن الإسلام، وكانت هذه الترجمات هي المصدر الوحيد الذي استقى منه كثير من المستشرقين معرفتهم بالإسلام.
واجبنا نحو التراث
1- وأرى أنه من الواجب على الأمة الإسلامية بعلمائها وأغنيائها وصناع القرار فيها أن يولوا عنايتهم بهذا التراث الضخم وهذا الإرث الإنساني المعرفي ويقدموه للعالمين في السياق الذي كتبه أصحابه ومؤلفوه، مبينين لما أشكل فيه، عارضين للمسائل والقضايا في سياقاتها، محققين لهذه المخطوطات تحقيقا يستوفي أعلى درجات الدقة والموضوعية
2- ومن الواجب على المنبهرين بهذا الإنتاج العلمي الضخم والمتنوع للمستشرقين ألا يقبلوا آراءهم على أنها مسلمات بل ينبغي تطبيق المنهج العلمي في الثبوت واستخراج الدلالات فكم من قضية أثاروها وأساسها جرف هار لا يثبت عند تطبيق قواعد المرويات، وكم من حكم أصدروه مبرهنين عليه ببراهين لا تتوافق مع مناهج البحث والاستدلال لكن الحب المبالغ فيه يعمي ويصم.
واجبنا نحو المستشرقين
1- ومن الواجب أن نمد يد التعاون إلى كل منصف وباحث عن الحق نفسر له ما التبس عليه ونشكره على إنصافه وليكن رائدنا في التواصل معهم البحث عن الحقيقة وهي غاية يسعى لها كل صاحب فطرة سليمة يعتمد على المنهج العلمي الصحيح.
2- إعادة طباعة ما أنتجه المستشرقون المنصفون ليكون أدعى لغيرهم إلى الاقتناع بالحق.
3- تقديم ترجمة للقرآن الكريم يتخلص فيها من يقوم بها من أخطار وأخطاء الترجمة الحرفية وينظر فيها إلى القرآن على أنه جملة واحدة تأخذ آياتها برقاب بعضها البعض، ويراعى فيها أن هذا الكتاب نزل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنه رحمة وهداية وشفاء، ويزال فيها سوء الفهم الذي أثير قديما وأعاد المستشرقون صياغته فليس أفضل من كلام الله للدلالة على مراد الله.
4- ما زلت أحلم باليوم الذي تقدم ردود علمية مستوفاة على الأغلاط العلمية التي في دائرة المعارف البريطانية وأن تطبع نسخة منها باللغات الأصلية التي طبعت بها الموسوعة تشتمل هذه الطبعة على الردود العلمية.
التراث هو صورة للفكر والعواطف والاتجاهات والاهتمامات، وبمعرفة ذلك تستطيع التعامل مع أصحابه، وإذا كان يفصلنا عن هذه الذخائر مئات السنين؛ فما زالت آثارها تتوارثها الأجيال وتبقى فاعلة في اللاوعي، وإن خفت تأثيرها حينا؛ فإن تحت الرماد نار تحتاج لمن ينفخ فيها من روحه لتتقد جذوتها ولتكون نارا على الأعداء ونورا لمن يبتغي النور.
_________________________________
(2) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري د محمود حمدي زقزوق.
(2) المستشرقون والتراث، عبدالعظيم الديب.
المصدر: “إسلام أون لاين”.