في عصر العولمة الذي تتسيده الرأسمالية، تحولت القيم الإنسانية إلى سلع تجارية؛ فالحب صار له عيد، والعيد تحول إلى فرصة تجارية تقودها دول وشركات عابرة للقارات تتقدمها آلة إعلامية ضخمة غطت أركان الأرض، وحولت القديس “فالانتين” الذي استشهد متمسكاً بعقيدته المسيحية أمام بطش الرومان الوثنيين.. حولته إلى عيد للحب، ينفق فيه البشر حول العالم مليارات الدولارات لشراء الهدايا المصحوبة بالورود.
وكان من الممكن أن نعتبر عيد الحب ومليارات الدولارات التي تنفق في يوم واحد للتعبير عنه عملاً إنسانياً، لو لم يكن في العالم 800 مليون جائع يمثلون نسبة 10% من سكان الأرض، بحسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) لعام 2021.
وكان من الممكن أن نعتبر الوردة الحمراء تعبيرًا عن شعور جميل، لولا أن زراعتها لتلبية المناسبات جعل الشركات الكبرى تستهلك ملايين الأفدنة لزراعتها.
ودولة مثل كينيا أكبر مصدر للورود إلى أوروبا تتركز زراعتها حول بحيرة “نيفاشا” في أراضٍ كانت تستخدم لزراعة المحاصيل ورعي الحيوانات، ولأن زراعة الزهور تستهلك من المياه أربعة أضعاف ما تستهلكه في المتوسط الزراعات الغذائية؛ فإن بحيرة “نيفاشا” تتعرض للاستهلاك بمعدل 15 سنتيمتراً سنوياً من منسوبها؛ ما يعرضها للجفاف.
ودولة كولومبيا أكبر مورد للورود للولايات المتحدة الأمريكية، وفي سبيل الوفاء بمواعيد تصدير الورود في المناسبات؛ يتم تكثيف رش المبيدات؛ ما تسبب في حالات إجهاض للسيدات وحالات تشوه خلقي لمواليد النساء العاملات في المجال.
وجدير بالذكر أن ما ينافس زراعة الورود في كينيا هو زراعة التبغ، وما ينافس زراعة الورود في كولومبيا هو زراعة الكوكا التي جعلت كولومبيا أكبر دولة مصدرة للكوكايين.
ونظراً لهذا الخلل العولمي الذي صنعه الإنسان، يتضور جزء من العالم جوعاً، ويضحون بالمياه والتربة الصالحة للزراعة، لكي يتهادى الناس بالورود، ويشربوا القهوة ويأكلوا الشوكولاتة، وتتكدس الأموال في أيدي حفنة من الشركات الكبرى المسيطرة على السوق.
الخلل بدأ مع النهضة الصناعية للغرب؛ حيث تحول جزء من الأرض التي كانت أمًا حنونة تمد الإنسان بالغذاء وتهديه سر الحياة، إلى مصدر لزراعة محاصيل لتلبية الحاجات الصناعية للغرب.
وبدأ المحتل الغربي يفرض على الدول المحتلة زراعة بعض المحاصيل التي تخدم أغراضه الصناعية؛ ففي مجال صناعة المنسوجات مثلاً، تحولت الهند ومصر إلى مصدر أساس للقطن المُصدَّر لإنجلترا، وتحولت دول غرب أفريقيا إلى مُصَدر أساس للقطن المصدر إلى فرنسا.
ومارست سلطات الاحتلال وسائل قمعية لإجبار الفلاحين على زراعة محاصيل التصدير؛ ففرضت فرنسا على الفلاحين في بلاد غرب أفريقيا دفع الضرائب بالعملة الفرنسية، ولم يعد أمام الفلاح إلا أن يزرع مزروعات التصدير، وأصبحت دولة مثل النيجر -إحدى أفقر دول أفريقيا- مصدرًا أساسًا للقطن الوارد لفرنسا، بينما يعاني أهلها من نقص الغذاء والماء.
ورحل المحتل وأناب عنه حكومات محلية ترتبط مصالحها مع نفس المحتل القديم وشركاته عابرة القارات، وما زالوا يمارسون الدور نفسه؛ ففي أشد أوقات المجاعات في أفريقيا، لم تتوقف السفن والشاحنات عن تحميل محاصيل مثل القطن والقهوة والكاكاو والمطاط والتبغ نحو الغرب.
هذه المقاربات تجعلنا نشعر بالألم من وردة “فلانتين”، مثلما شعر الحَلَّاج بالألم من وردة الجُنَيْد؛ حيث يُروى أن الحلاج حين صلبوه بتهمة الزندقة، ظل العامة والصبيان يسبونه ويرمونه بالحجارة وهو ساكن، وبينما هو على هذه الحال إذا بالجنيد (القطب الصوفي المعروف) يشق الصفوف، ويرمُقُ الحلاج بنظرة عتاب على ما أباح به من أسرار العلاقة بينه وبين ربه، ثم رماه بوردة.
وهنا صرخ الحلاج وعلا نشيجه، ونظر إلى الجنيد بانكسار وقال: “آآآه، لقد آلمتني وردتك”.
وبرغم الاختلاق الظاهر في الرواية؛ حيث إن الجنيد مات قبل صلب الحلاج، فإن رمزية القصة تبقى ناصعة ناطقة.