أبدأ وقبل كل شيء في هذه المقولة الرائعة: “قمة الذكاء ألا تفقد الأصدقاء والمحبين ما استطعت، وقمة الغباء تعمل برعونة وغباء معتقداً أنك الذكي وتفقد الأصدقاء والجميع”!
وأبدأ أيضاً بهذه الرواية التي جاءت في صحيح الجامع الصغير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “ليس الكيس الفطن من علم الحلال والحرام، الحلال بيِّن والحرام بيِّن، ولكن الكيس الفطن من علم الحسن والأحسن والسيئ والأسوأ”.
وألحقها بمقولة للوالد رحمه الله تعالى مدللاً فيها أن للذكاء تعاملاً أيضاً، فيقول: “أغبى الناس من لا يحترم ذكاء الناس وإن فاض علمه وذكاؤه”، فمن الذكاء احترام ذكاء الناس.
من أهم الأدلة على الذكاء حسن الإنصات والتشنيف للمتحدث، ووضع النفس أحياناً كثيرة مكان المتحدث لالتماس الشعور بدقة بما يشعره المتحدث.
والذكاء أنواع، كما يقول أهل الاختصاص، إلا أن الذكاء عموماً هو الفطنة والكياسة التي تتولد من حسن التجربة وحسن التعلم والإنصات، ومن ثم الحصول على قدرات عقلية مترابطة في السمع والقول، والاستفادة من التجربة الذاتية أو من الآخرين، والفهم والتخطيط والتحليل، لوضع الحلول والنتائج للأمر المعني والهدف المنشود.
أيضاً، من الذكاء التأني، فبه تتضح الرؤية بدقة بكل ما دق منها وعظم، ومن ثم أخذ القرار المناسب للوضع أو الأمر المطروح.
ويقول أهل الاختصاص: الذكاء يعني القدرة على الإحساس وإظهار المشاعر مع التفاعل قدرة مع مشاعر الآخرين، ولا بد من قوة الذاكرة معها، والحديث عن الذكاء متشعب ويطول، ولكن نحن نريد الذكاء البديهي لا التخصصي، نريد الذكاء العام للإنسان الفطري.
أما الذكاء عموماً قد يطول الحديث فيه كما قسمه أهل الاختصاص إلى 9 أنواع أو أكثر، ولكن نحن نتحدث عن مطلق الذكاء الذي نجده في الإنسان الفطري والأعرابي والحضري، والمتعلم والعالم وعموم الناس.
ويقول أهل الاختصاص: للذكاء خصائص؛ منها التكيف مع كل ما يطرأ على الإنسان؛ أي التعامل مع الواقع، وفي المتاح مادياً ومعنوياً، والقدرة على ربط المواقف المتنوعة والتمييز بين الأفضل والأسوأ كما جاء في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ “التمييز بين الحسن والأحسن والسيئ والأسوأ”.
فمن الذكاء أن تكون للإنسان القدرة على التركيز، ومن ثم حسن الاختيار، حيث تقديم الأحسن على الحسن، والحسن على السيئ، والسيئ على الأسوأ.. إلخ، وفي هذا التركيز يكون الكيس الفطن هنا انتصر لعقله على العاطفة التي تتبع في كثير من الأحيان الأهواء الجارفة، ويدخل من بابها المفتوح الشيطان الرجيم بخطواته الخبيثة على الإنسان المندفع عاطفياً وبلا عقل أو تعقل، ومن ثم الاندفاع بالرعونة التي تؤكد حينها الغباء بكل معنى الكلمة، الذكاء نعني به قدرة التفكير المجرد والبعيد عن العواطف وعدم الابتعاد عن العقل، ومن ثم تكييف الأمور ومقياسها يكون منطقياً وعقلياً وفي رضا الله عز وجل.
هذا التجرد العقلي، والابتعاد عن العواطف، يؤدي في النهاية إلى التفكير المنطقي المجرد، ومن ثم اكتشاف الإنسان لدى قدراته وتأصيلها تأصيلاً جيداً، كل قدرة ووظيفتها المنطقية والعقلية المستفاد منها.
الذكاء له أسبابه، إذا صح التعبير، وأسبابه عديدة:
هناك من العوامل التي تؤدي إلى تثبيته، مثل العامل البيئي، وهناك العامل التعليمي، ولا ينبغي أن ننسى العامل الوراثي ودوره في تأصيل الذكاء، وهناك الترابط الأسري وتأثيره الإيجابي على المستوى العقلي والتفكيري على الفرد داخل الأسرة، وتنمية الذكاء في الأفراد داخل الأسرة، والترابط الأسري له أثره الكبير على الأطفال ونمو ذكائهم وقدراتهم عموماً، وهناك أيضاً تأثير مهنة الأبوين في الأسرة، فلها ما لها في تنمية الذكاء وتطويره تقليداً وقدوة.
الذكاء لو بحثنا فيه لن نجد له تعريفاً مؤطراً، إلا أن الذكاء لا شك مرتبط ارتباطاً بيّناً بالعقل والإدراك، والخبرات والتجارب والاحتكاك وفن الاستفادة من كل ذلك.
وبعض أهل الاختصاص في العلوم النفسية قسم الذكاء إلى أنواع تصل إلى تسعة، منها الطبيعي، والذكاء الموسيقي، والوجودي واللغوي والشخصي وغيرها كثير، إلا أننا نعني هنا بالذكاء استقلال العقل والتجرد من العاطفة في بصيرته والاستماع، ليرتقي الذكي إلى حسن الاختيار بين الحسن والأحسن والسيئ والأسوأ، وإدراك الأولويات، ومن الدلائل على الأكثر ذكاء: من يسمع أكثر مما يتكلم، وإذا تحدث تكلم بهدوء وبحسن اختيار للألفاظ والمفردة وطبقة الصوت الهادئة، وإذا استمع أبدى الاهتمام للمتكلم، يحمّل من معه المسؤولية بالمشاركة ليخف الحمل عن نفسه، يقدر ذكاء الأطراف الأخرى وعقولهم، يحدثك بالعقل والمنطق من خلال العاطفة، والذي يسمعك ويشعرك أنه منك يستفيد، وإن كان على حق ترك لك جزءاً منه لتشاركه الحوار، والأكثر ذكاء من يرى الحق بمنظوره ويعذر المنظور الآخر ويحترمه، من يرى نفسه مكان الآخرين سلباً، ويرى لهم ما يراه لنفسه إيجاباً ليعدل بالحكم عقلاً منطقاً، من يفرق بين الشجاعة الرعونة، وبين الجبن والحلم، من علم الحسن والأحسن والسيئ والأسوأ، من يتنازل عن العناد، فالعناد يغلق باب الرجعة وقنوات الصلح، والأكثر ذكاء الأكثر استشارة للغير، والأكثر تحرياً في رضا الله تعالى، وتحري النجاة في الآخرة.