الاجتهاد
شن الإمام محمد عبده حربًا على التقليد، وليس التقليد عنده يختص بتقليد العلماء المتقدمين، وترديد آرائهم المذهبية، على غير دليل وحسب، وإنما يمتد التقليد عنده إلى تقليد المسلمين للغربيين في المسائل التي ينقلونها إلى مجتمعاتهم، من غير أن تكون ملائمة لهذه المجتمعات، بما فيها القوانين الوضعية المنافية للشريعة أو لروح التقاليد الشرقية، والعادات والمظاهر الغربية عن هذه المجتمعات. فالكل تقليد مضر بالمجتمع؛ لأن التقليد الأول للسلف يجمد حياته الفكرية، والتقليد الثاني للأوروبيين يفتح منافذ الهيمنة الأجنبية والتأثير الحضاري الدخيل. ([2])
ومحمد عبده إذ ينعي على التقليد، ينعي عليه لذاته من حيث هو كمبدأ، ثم على وجه أخص: ينعي على صورته التي كان عليها في زمنه، وهي التي تتمثل في تبعية حرفية لها شبه قداسة وسلطة…تبعية لمذاهب واتجاهات ولدتها أو مالت بها عن خط الاستقامة عهود الضعف الفكري والسياسي، والاقتصادي في الجماعة الإسلامية…وتبعية لكتب قامت على كثرة الافتراض النظري في تفصيل الآراء، وبعُدت بذلك عن الحياة وعن سيرها الواقعي، وغمضت في أسلوبها، وهدفت إلى توكيد الخصومة المذهبية الجامحة ([3]).
التفسير القرآني
مثل الاجتهاد عند “محمد عبده” الموضوع الرئيسي لتفعيل العقل ودوره في الحياة العقدية والاجتماعية، فالقرآن أطلق سلطان العقل من كل تقليد ونعى على كل الذين اتبعوا آباءهم وأجدادهم واهتدوا بآثارهم، والاجتهاد عنده – أيضًا – جاء منطلقًا وتعبيرًا في آن واحد عن تصوره الكوني والحضاري النابع من الإسلام كمرجعية عقدية ومعرفية، بعيدًا عن التمذهب والتفرق الذي رأي فيه خروجًا عن مقاصد الإسلام في كثير من جوانبه. ومن المهم-أيضًا- أن ندرك أولًا تصور محمد عبده عن “القرآن” ومكانته ووظيفته العقدية والمعرفية، حيث يراه كتاب هداية ونهجًا للاجتماع وسبيلًا للسعادة والإصلاح وهو ما يؤكده الشيخ محمود شلتوت عن هذا التصور” حيث كان -محمد عبده- يرى القرآن أصلًا للدعوة الفكرية الإصلاحية مهما تشعبت فروعها، وكان ينظر إليه علي أنه أساس القوة ومصدر العزة للدولة الإسلامية والمسلمين جميعًا فاستقبله علي أنه – كما أنزله الله – كتاب هداية وتشريع وأخلاق، ونهي عن اتخاذه لغير ذلك من الأغراض المادية التي لا تليق بجلاله، والتي تصرف المسلمين عن الانتفاع بهدية وإرشاده، ونبه المسلمين عامة وأهل العلم خاصة إلي مركز القرآن، وأنه المسيطر علي كل ما سواه في العلميات والعمليات، بحيث يجب أن يتحاكم إليه المختلفون، وأن يخضعوا لحكمه وأن يتركوا جميع الأقوال لقوله فليس أمام حكمه حنفي ولا شافعي، ولا سني، ولا معتزلي ” ([4]).
ويؤكد ذلك “محمد عبده” في تقسيمه الكمي للقرآن وكيف أن “الأحكام العملية التي جرى الاصطلاح على تسميتها فقهًا هي أقل ما جاء في القرآن، وإن فيه من التهذيب ودعوة الأرواح إلى ما فيه سعادتها ورفعها من حضيض الجهالة إلى أوج المعرفة وإرشادها إلى طريقة الحياة الاجتماعية ما لا يستغني عنه من يؤمن بالله واليوم الأخر، وما هو أجدر بالدخول في الفقه الحقيقي، ولا يوجد هذا الإرشاد إلا في القرآن” ([5]).
لذلك دعا محمد عبده وبكل قوة إلي فتح باب الاجتهاد، منكرًا القول الذي شاع بأن باب الاجتهاد قد أغلق. والاجتهاد هو النهج الذي رأي فيه “محمد عبده” التغلب علي إشكالية “الجمود والتقليد”، الجمود الذي أوقف العقل عن التفكير والفاعلية، و”التقليد” الذي أوقف الحياة الإسلامية عن التطور والصيرورة الإنسانية، فالدور الذي يقوم به الاجتهاد هو الوصل بين طرفين ضروريين ومتكاملين ولا يجوز بحال من الأحوال الفصل بينهما وهما: “”الوحي” و” الوجود” أو بين” الدين” و” الدنيا”.
يمكن تناول إحدى الميادين التي استخدم فيها “محمد عبده” آلية “الاجتهاد” وتفعيل “العقل” وهو ميدان التفسير القرآني، وذلك من خلال البحث في عدة مؤشرات طرحها محمد عبده في هذا الميدان التفسيري. ومنها: تحديد مقاصد التفسير القرآني وهي كما يقول ” فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، فإن هذا هو المقصد الأعلى منه وما وراء هذا من المباحث تابع له ووسيلة لتحصيله وينفي “محمد عبده” أن يكون المقصود بالفهم هو التسليم الأعمى بما جاء في الكتب السابقة “إن الله تعالي لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس وما فهموه وإنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا وعن سنة نبيه r الذي بين لنا ما نزل إلينا”. ([6]))وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ( [النحل:44].
ولذلك تجاوز عبده من الناحية المعرفية “أسباب النزول” لأن القرآن رسالة للإنسان في كل زمان ومكان، ولم يقصر فهمه على فئة دون أخري أو طائفة دون غيرها بل رأى أن كل واحد من الناس عليه أن يفهم آيات الله بحسب طاقته لا فرق – في ذلك بين عالم وجاهل. ويكون ذلك بإعمال العقل في فهمه وتدبره ” فالله أمرنا بالفهم والتعقل لكلامه لأنه إنما أنزل الكتاب نورًا وهدي مبينًا للناس شرائعه وأحكامه ولا يكون كذلك إلا إذا كانوا يفهمونه”([7]).
ويقسم “محمد عبده” مراتب التفسير إلى قسمين: المرتبة الدنيا، أن يبين بالإجمال ما يُشرب القلب – عظمة الله تعالي وتنزيهه ويصرف النفس عن الشر ويجذبها إلي الخير (وهذه المرحلة متيسرة لكل أحد من الناس). والمرتبة العليا، تنقسم إلى عدة أقسام: أحدها، فهم حقائق الألفاظ المفردة (مع مراعاة تغير الألفاظ والمصطلحات عند المفسرين القدماء إلى الوقت الحالي). ويرجح “أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه وموارده فيه والمعاني المختلفة التي يتضمنها. انطلاقًا من مبدأ “أن القرآن يفسر بعضه ببعض” وهو ما يعرف بالتفسير القرآني، ثانيها، الأساليب، وثالثها، علم أحوال البشر، ورابعها، العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن، وخامسها، العلم بسيرة النبي rوأصحابه ([8]). ويشير محمد البهي إلى مجموعة من القواعد التي طرحها “محمد عبده” في تفسير “النص القرآني” وهي:([9])
- إخضاع حوادث الحياة القائمة في وقته لنصوص القرآن الكريم إما بالتوسع في معني النص، أو بحمل الشبيه على الشبيه.
- اعتبار القرآن جميعه وحدة واحدة متماسكة لا يصح الإيمان ببعضه وترك بعض آخر منه، كما أن فهم بعضه متوقف على فهم جميعه.
- اعتبار السورة كلها أساسًا في فهم آياتها، واعتبار الموضوع فيها أساسًا في فهم جميع النصوص التي وردت فيه.
- إبعاد الصنعة اللغوية عن مجال تفسير القرآن، وإبعاد تفسيره عن أن يكون مجالًا لتدريب الملكة اللغوية.
- عدم إغفال الوقائع التاريخية في سير الدعوة إلي الإسلام. عند تفسير الآيات التي نزلت فيها.
ومن النماذج التفسيرية في ضوء المؤشرات والقواعد ما قاله محمد عبده في تفسير قوله تعالي )غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ( [الفاتحة:7] بأنهم “هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به والذين بلغهم شرع الله تعالي ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه انصرفا عن الدليل، ورضي بما ورثوه من القليل، ووقفًا عند التقليد، وعكوفًا على هوى غير رشيد” ([10]).
أما “الضالون” فصنف منهم من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها، فاتبعوا أهواءهم في فهم ما جاءت به في أصول العقائد وهؤلاء هم المبتدعة في كل دين، ومنهم المبتدعون في دين الإسلام وهم المنحرفون في اعتقادهم كما تدل عليه جملة القرآن، وما كان عليه السلف الصالح وأهل الصدر الأول ففرقوا الأمة إلى مشارب يغص بمائها الوارد ولا يرتوي منها الشارب ([11]).
وأيضًا ما جاء في تفسيره لقوله تعالي )وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)( [سورة الفيل]. من اعتبار الطير–المذكور– من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه وانتهى بإفساد الجسيم وتساقط لحمه ([12])، وأيضًا – لم يكتف بأقوال السابقين في تفسير المقصود بـ “الكوثر” الذي عدوه نهرًا في الجنة ورأي أن الكوثر “صيغة مبالغة من الكثرة. ومعناه الشيء البالغ من الكثرة حد الإفراط…وأن الكوثر النبوة أو العلم والحكمة”([13])، وعاب على من قصروا تفسيره على أنه شيء محدد “نهر في الجنة” حيث أنه لا يفهم ذلك من الآية.
نظرية المعرفة
لم تسلم – أيضًا – آراء “محمد عبده” حول “نظرية المعرفة “والقيم الحاكمة لها من تأثير الظروف الاجتماعية والفكرية التي أثرت بصفة عامة في منهجه الفكري ومشروعه الإصلاحي. فمن ناحية انتقد بشدة “الفلسفة الغربية” وما يتولد عنها من نظرة مادية للمعرفة تحصر أصحابها في الاعتقاد فقط بكل ما هو مادي ورفض ما دون سواه، ويشير العقاد إلي أن هذا “زاده اعتقادًا بضرورة “الديـن” لصلاح النفوس البشرية وهداية الأمم في حياتها الاجتماعية”([14]). وهذه النظرة جعلت من ناحية أخري “محمد عبده” يؤكد على “التوحيد” كمركز أساس في القيم الحاكمة “للمعرفة البشرية” “واتخذ الإمام من هذا المبدأ الإيماني سلاحًا أكثر مضاء، وحجة أبلغ إقناعًا، لمواجهة الأفكار المادية الجديدة بصورة عامة”([15]).
والفكرة الأساسية في المنحى المعرفي عند “محمد عبده” هو تأكيده على بداهة “فكرة “التكامل” بين (الدين /العلم) (العقل/ الإيمان) وكل ما يتعلق بهذه الشبكة المنظمة لعملية “المعرفة البشرية” وعناصرها المختلفة والتي شكلت صراعًا في الفلسفات الغربية. الوسطية الإسلامية إذن هي الفارق الأساسي بين “الفلسفة الغربية” ووضعيتها المنطقية وبين ما طرحه “محمد عبده” من قيم “لنظرية المعرفة”. واشترط “محمد عبده” لتحقيق مبدأ ” التكامل” سلامة المنهج لكل من العقل والإيمان فهذا هو الشرط الأساسي لتحقيق الفهم الحقيقي للدين ” فالمسلمين ما عادوا العلم ولا العلم عاداهم إلا من يوم انحرافهم عن دينهم، وأخذهم في الصد عن علمه، فكلما بَعُد عنهم علم الدين بَعُد عنهم علم الدنيا وحرموا ثمار العقل. وكانوا كلما توسعوا في العلوم الدينية توسعوا في العلوم الكونية”([16]).
كذلك – أيضًا – فإن ” مبدأ ” التكامل” يشترط أن يدرك العقل جوهر عمله ووظيفته، ولا يتعداها بالبحث في قضايا لا تخضع لإدراكه وقدرته. وإذا تحقق ذلك فإنه” لابد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين، على سنة القرآن والذكر الحكيم، ويأخذ العالمون بمعني الحديث الذي صح معناه “تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله”. ([17])
واتصالًا بدور العقل وحدوده نجده يميز بين نوعين من موضوع المعرفة وهما: العوارض، والجواهر ويؤكد أن أقصى ما يستطيع العقل الوصول إليه هو معرفة عوارض بعض الكائنات التي تقع تحت إدراك الإنسان باختلاف مصادر معرفته، وينفي قدرة العقل إلى الوصول إلى “كنه الأشياء” أو جواهرها. وهذا يتلاءم مع سلامة المنهج الإسلامي في المعرفة ” إن الله لم يجعل للإنسان حاجة تدعوه إلى اكتناه شيء من الكائنات، وإنما حاجته إلى معرفة العوارض والخواص”. ([18]) ويتصل بذلك – أيضًا – ما قرره “محمد عبده” من “أن العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد…بل لابد معها من السمع لإدراك المسموعات” ([19]).
ونصل هنا إلى فكرة “التكاملية” بين عناصر نظرية المعرفة والتي يطرحها “محمد عبده” في نظرية “الهدايات الأربع” والتي يوضح فيها المصادر الرئيسة لتحصيل واكتساب “المعرفة البشرية” وكيف أنها تتكامل لتحقيق الغاية منها وهي سعادة الإنسان. ” فقد منح الله تعالي الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته: أولاها، هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري وتكون للأطفال منذ ولادتهم. الثانية، هداية الحواس والمشاعر وهي متممة للهداية الأولي في الحياة الحيوانية، ويشارك فيها الإنسان الحيوان الأعجم بل هو فيها أكمل من الإنسان. الثالثة، هداية العقل… وهي هداية أعلي من هداية الحس والإلهام وهو الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه. الهداية الرابعة، الدين: حيث يغلط العقل في إدراكه كما تغلط الحواس وقد يهمل الإنسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية والنوعية ويسلك بهذه الهدايات مالك الضلال فيجعلها مسخرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة (لذلك احتاج الإنسان إلى هذه الهداية الرابعة) هداية الدين ترشدهم في ظلمات أهوائهم إذا غلبت على عقولهم وتبين لهم حدود أعمالهم ليقفوا عندها ويكفوا أيديهم عما وراءها. ثم إن مما أودع في غرائز الإنسان الشعور بسلطة غيبية متسلطة على الأكوان ينسب إليها كل ما لا يُعرف له سببٌ لأنها هي الواهبة كل موجود ما به قوام وجوده وبأنه له حياة وراء هذه الحياة المحددة. ولا يستطيع أن يصل إلى صاحب تلك السلطة الذي خلقه وسواه بتلك الهدايات الثلاثة إنه في أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة – الدين – وقد منحه الله إياها “ ([20]).
وانطلاقًا من مبدأ ” التكامل” كحاكم لنظرية المعرفة عند محمد عبده فإنه يقرر التقاء العقل مع الوجدان دون صراع أو تناحر بينهما وذلك بمقتضي الفطرة والغريزة، أما الصراع والتناحر كما اعتقدته الفلسفة المادية فإنه يرجع إلى “عروض العلل والأمراض الروحية على النفوس”. ([21]) أي وجود خلل في إدراك حقيقة وظيفة كلٍ منهما كما حددته الفطرة والخلقة، لذا فهو يربط بين ارتقاء الإنسان في العلم الحقيقي وتنقية وجدانه مما علق به من شوائب مادية نتجت عن النظرة الحسية للمعرفة وبين إدراك الله أو التوحيد الواجب “الذي يستحيل عليه أن يلبس لباس المادة على النحو الذي يظنه مسيو هانوتو وأمثاله لأن ما لا حد له محال أن تحيط بوجوده الحدود” ([22]) .
وهذه “التكاملية” إنما تأتي من وجه آخر يراه محمد عبده فيما يتعلق بطبيعة المعرفة، “فهناك معرفة قريبة ومباشرة، وأخري بعيدة، والحواس تستطيع إدراك النوع الأول، بينما العقل يختص بالقسم الثاني. وهو امتداد لتقريراته السابقة حول وظيفة وسائل المعرفة التي تتباين في مدركاتها ولكن هذا التباين مؤد بالضرورة إلى التكامل والانسجام” منحنا العقل للنظر في الغايات، الأسباب والمسببات، والفرق بين البسائط والمركبات – والوجدان لإدراك ما يحدث في النفس والذات… فهما عينان للنفس ينظر بهما، عين تقع علي القريب، وأخري تمد إلي البعيد، وهي في حاجة إلي كل منهما ولا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى فالعلم الصحيح مقوم للوجدان، والوجدان السليم أشد أعوان العلم. والدين الكامل علم وذوق، عقل وقلب، برهان وإذعان، فكر ووجدان فإذا اقتصر دين علي أحد الأمرين فقد سقطت أحدى قائمتيه، وهيهات أن يقوم علي الأخرى، ولن يتخالف العقل والوجدان حتى يكون الإنسان الواحد إنسانين، والوجود الفرد وجودين”. ([23])
ونستنتج من هذا النص أن “التجربة” التي اعتمد عليها المنهج الغربي في العصر الحديث ليست هي تلك المعتمدة عند محمد عبده فهو يعتقد اعتقادًا جازمًا بقدرة العقل علي إدراك الحقائق “فوق التجربة” وأنه المقياس الأول للمعرفة لأن الحس يعطينا ظاهر الأشياء القريبة بينما العقل قادر علي النفاذ إلى الغايات. إلا أن الحقيقة عنده هي جماع بين “الحس والعقل” أو “الوجدان والعقل” أو “العلم والدين”.
ومن المفاهيم التي حاول “محمد عبده” تصحيحها لدي العقل المسلم هو ما يتعلق بتغافل العقل المسلم عن “السببية” أو “السننية” وهيمنة مفاهيم “الثبات” علي العقل المسلم لاسيما في “موضوع” “الخيرية” التي أقرها القرآن؛ حيث أشار إلى أن هذه “الخيرية” إنما ترتبط بأسباب وسنن وليست مطلقة لذاتها ” فقد أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين خير الأمم، وأن العزة والقوة مقرونتان بدينهم أبد الدهر، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم، وأن رفعة الشأن تابعة للفظه وإن لم يتحقق شيء من معناه”. ([24])
إن الاعتبار بسنن الله في الخلق “أصل آخر وضع لتقويم ملكات الأنفس القائمة علي طريق الإسلام وإصلاح أعمالها في معادها ومعاشها – ذلك هو أصل العبرة بسنة الله فمن مضي ومن حضر من البشر وفي آثار سيرهم فيهم فمما جاء في الكتاب العزيز مقررًا لهذا الأصل )قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ( [آل عمران:137] )سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا] {الأحزاب:62} [سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا( [الفتح:23] .وفي هذا يصرح الكتاب أن لله في الأمم والأكوان سننًا لا تتبدل والسنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلي حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمي شرائع أو نواميس، ويعبر عنها قوم بالقوانين. إن الذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى ما يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليه أعماله ويبني عليه سيرته وما يأخذ به نفسه”.
_________________________
[1] أستاذ أصول التربية- جامعة دمياط.
([2])محمد الكتاني: جدل العقل والنقل في مناهج التفكير الإسلامي، ص184.
([3])محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص134.
([4])محمود شلتوت: “الإمام محمد عبده وطريقته في التفسير”، مجلة الرسالة، القاهرة، العدد 576، 17/7/1944.
([5])محمد عبده: تفسير سورة الفاتحة وجزء عم، ص10.
([8]) المرجع السابق، ص 12- 16.
([9]) محمد البهي: مرجع سابق، ص137.
([10]) محمد عبده: تفسير سورة الفاتحة وجزء عم، مرجع سابق، ص59.
([14]) العقاد: الإمام محمد عبده عبقري الإصلاح والتعليم، ص182.
([15])أحمد فؤاد باشا: “حول رؤية الإمام محمد عبده لعلاقة الدين بالعلم”، المسلم المعاصر، القاهرة، العدد 119 – 120 2006، ص162.
([16])محمد عبده: الإسلام بين العلم والمدنية، مرجع سابق، ص201.
([18]) محمد عبده: رسالة التوحيد، مرجع سابق، ص51.
([20])محمد عبده: تفسير سورة الفاتحة وجزء عم، مرجع سابق، ص51 -52.
([21])محمد عبده: الإسلام بين العلم والمدنية، مرجع سابق، ص187.
([24])عبده، محمد. الإسلام بين العلم والمدنية، مرجع سابق، ص100.