انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة تستهدف الأطفال، من أجل تحقيق الشهرة وكسب المال عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتحديداً عبر موقع “تيك توك”.
وحذر خبراء تربويون واجتماعيون، في حديثهم لـ”المجتمع”، من هذه الظاهرة، لما لها من تأثير سلبي على الأطفال نفسياً وسلوكياً واجتماعياً، مشيرين إلى أن بعض الآباء يلهثون في عالم وسائل التواصل الاجتماعي الحديث لفعل أي شيء ويأتون بكل ما هو غريب ومستهجن في سبيل جمع المشاهدات، وتكثير التفاعلات، وزيادة عدد المتابعين.
استغل طفلته وادعى وفاة زوجته لتسول المشاهدات والتفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي
إحالة أب أردني إلى القضاء بعدما فبرك فيديو لطفلته بقرب مقبرة لحصد التعاطف والمشاهدات على المنصات الرقمية#الأردن #هنا_المملكة pic.twitter.com/KDVzhWoyGj
— قناة المملكة (@AlMamlakaTV) October 11, 2022
خلال أيام قليلة ماضية، انتشر مقطع فيديو في الأردن لشخص دفع ابنته ذات الـ4 أعوام لتمثيل مشهد خيالي وهي تبكي داخل مقبرة؛ لكسب الشهرة وحصد المتابعين وزيادة التفاعلات على موقع “تيك توك”.
وفق الفيديو، ادعت الطفلة أنها تعرضت للضرب من قبل زوجة أبيها بعد وفاة أمها، لتبين التحقيقات أن المقطع والقصة مفبركة، وأن والدتها أيضاً على قيد الحياة.
بدورها، ألقت السلطات الأردنية القبض على والد الطفلة.
وقال المتحدث مدير الأمن العام الأردني عامر السرطاوي: إنه ومن خلال التحقيقات وجمع المعلومات تم تحديد هوية الطفلة ومكان تصوير الفيديو وتم التحرك لمكان سكنها، وأُلقي القبض على والدها بعد أن تبين بأنّ الطفلة بصحة جيدة، ووالدتها على قيد الحياة، واعترف والدها بقيامه بتصويرها بتلك الحالة المحزنة والمفبركة لنشر المقطع عبر مواقع التواصل وحصد مشاهدات مرتفعة عليه.
وتولت إدارة حماية الأسرة الأردنية التحقيق في القضية لإحالة الشخص للقضاء وعمل دراسة اجتماعية للطفلة بما يؤمن الحماية لها وضمان عدم تكرار ما حصل معها مستقبلاً.
طوالبة: الحاجة إلى ابتكار أساليب جديدة لإدارة مواقع التواصل تحفظ كرامة الإنسان وتهتم بمصداقية المحتوى
استجداء إلكتروني
بداية، يقول الخبير التربوي همام طوالبة: إن بعض الناس يمكن أن يفعلوا أي شيء في عالم التواصل الاجتماعي الحديث في سبيل تحقيق مراده وشعاره؛ ليس المهم ما أقدم، المهم كم أحصد من مشاهدات وتفاعلات ومتابعين.
ويصف طوالبة، في حديثه لـ”المجتمع”، هذا السعي المحموم نحو الشهرة والمال بـ”التسول أو الاستجداء الإلكتروني”، مشيراً إلى أنه له صور مختلفة، منها: المبالغة في إضحاك الناس، أو تقديم الشخص لنفسه وعائلته بصورة غير واقعية، أو التلفظ بكلمات مبتذلة.
وأوضح أن بعضهم يعرض مشكلاته وخصوصياته في الفضاء العام، وبعضهم يستغل الأطفال وكبار السن ويعرضهم بشكل غير لائق من أجل التربح.
ويرى طوالبة أن سبب هذه الظاهرة يرجع إلى أمرين؛ الأول: المصفوفة التي تحكم هذا النوع من وسائل التواصل الاجتماعي، فهذه الوسائل لا تقدم المحتوى الأقوم أو الأصدق أو الأعمق، بل تقدم المحتوى الذي يحصل على تفاعلات أكثر، ولو كانت سلبية.
أما الأمر الثاني فهو نظام المكافآت الذي يحكم هذه الوسائل، فهي مجانية للمشتركين، والتربح منها يكون عن طريق الإعلانات التي تظهر على المحتوى الذي تفاعل عليه الناس أكثر، كأنها تقول للمشتركين: من أراد الشهرة أو المال فعليه أن يحصل على مزيد من التفاعلات، بغض النظر عن نوعها أو عن طريقة الحصول عليه، يضيف طوالبة.
ويعتبر أن هذا الأسلوب في إدارة هذه الوسائل كان السبب في ظهور عدة مشكلات، منها: استغلال الأطفال وكبار السن، الكذب الإلكتروني، التفاهة، هوس الشهرة، الاكتئاب، القلق، وغيرها من المشكلات.
ويؤكد طوالبة لـ”المجتمع” أن الإنسان المعاصر يحتاج اليوم إلى ابتكار أساليب جديدة لإدارة مواقع التواصل الاجتماعي، أساليب تحفظ كرامة الإنسان وقيمه، وتهتم بمصداقية المحتوى وقيمته، وحتى يحصل هذا المأمول يجب على مشتركي هذه المواقع ألا يكونوا جسراً لمرور هذه المواد إلى الناس.
انتهاك للقيم
من جهتها، ترى الاستشارية الأسرية والمتخصصة في علم الاجتماع د. بيان فخري أن ظاهرة استغلال الأطفال عبر وسائل التواصل تعبير عن انتهاك للقيم الأسرية العليا كقيمة الخصوصية، موضحة أنها القيمة العليا التي تحميها الأسرة وتقرها بل وتدافع عنها في الحالة الطبيعية وتسعى للمحافظة عليها، وهي حفظ أسرار الأسرة وخصوصية الأفراد خاصة الأطفال بعدم إذاعة تفاصيل حياتهم، وحماية تاريخ نموهم في مراحلهم العمرية الأولى التي لا يملكون فيها القدرة ولا الأهلية لاتخاذ القرارات بشأن حياتهم، وغير قادرين على الضبط والتحكم بسلوكياتهم.
وتضيف فخري لـ”المجتمع”: الآباء هم الأمناء والمكلفون شرعاً وقانوناً بحماية خصوصية أبنائهم وسرية سيرتهم الذاتية في طفولتهم، وعدم إذاعتها ونشرها للآخرين لحماية كرامتهم وضمان احترام الآخرين لهم طوال حياتهم، والحيلولة دون نشر ما يمكن استخدامه مستقبلاً للتشويه والتشهير ببعض خصوصياتهم النمائية في مرحلة الطفولة ومنع استغلالها ضدهم مستقبلاً.
وأشارت فخري إلى القيمة الثانية، وهي القيمة المعنوية للعلاقات الأسرية لصالح القيمة المادية لها؛ تنبع قيمة العلاقات الأسرية بمختلف أشكالها من أهميتها وقيمتها المعنوية وليس المادية، لذلك كانت الحالة الطبيعية أن يقدم الآباء عزيز أموالهم لخدمة النمو السليم والتربية الصالحة لأبنائهم بأعلى مستوى ممكن، وشعور الوالدين بالفخر إن استطاعوا توفير المال اللازم وتقديمه، وإلا كان الشعور بالعجز والتقصير أن أضروا بمصلحة الطفل بسبب عدم توفر المال الكافي لتربية ورعاية أبنائهم.
وأكدت فخري أن ما يحدث الآن على مواقع التواصل من ظاهرة استغلال الأبناء لجني الأرباح من خلال حصد المتابعين والشهرة هي عملية تحويل الأبناء ومشاعرهم وأفكارهم وسلوكياتهم البريئة والعلاقة معهم لمجرد سلعة يتاجر بها، ومادة لتحقيق الشهرة.
وأضافت أنه تعبير عن حالة تقديس القيم المادية على حساب القيم المعنوية في العلاقات الأسرية، وتحويل المال من خادم لنمو الأطفال وتربيتهم ورعايتهم لسيد وصنم يعبد ويسخر الأبناء لجنيه وحصدة، دون احترام ولا عناية بأثر ذلك وخطورته على صحة نمو الأطفال وسلامتهم النفسية، وفقدانهم للشعور بالأمن والحماية، وتعريضهم للتهديد وخطر الإساءة والاستغلال من قبل كل هؤلاء المتابعين والمعجبين ومن يشاهدهم على مواقع التواصل.
فخري: ما يحدث على مواقع التواصل تعبير عن حالة تقديس القيم المادية على حساب القيم المعنوية في العلاقات الأسرية
كما هو تعبير عن تعظيم لقيمة الشهرة والمادة والمال على حساب قيم التربية والرعاية والاحتضان والرحمة والحنان الوالدي الذي هو أساس العلاقة الوالدية وعمادها في الحياة الأسرية.
ردود فعل
هذه الحادثة أثارت موجة جدل وغضب واسع بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي في الأردن، مطالبين بحماية الأطفال من الاستغلال والوقوع كوسيلة تجارية أو سلعة بهدف “الترند” وجمع المشاهدات لكسب الأموال عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
علقت المغردة خلود أرشيدات، عبر تغريدة لها على “تويتر”، قائلة: “دين جديد أتباعه بيعبدوا اللايك والريتويت والشير والـ views”، ووصفته بـ”الهوس الذي مسّخ كل شيء له قدسية أو حرمة أو معنى”.
المغرد مراد قاضي انتقد تصرف الأب مع طفلته، فقال: “لا أعتقد أنك تستحق أن تكون أباً إذا وصلت بك القذارة إلى هذا الحد”، وتابع في تغريدته: “والله الذي لا إله إلا هو قمة العار أنك تكون أباً وتفعل مثل هذا وتستغل براءة الطفلة وخوفها منك لتردد ما قمت بتحفيظها بهذه الطريقة التي تنعدم منها الإنسانية”.
وقال المغرد حسين الفايز متعجباً: “هوس الشهرة لوين رح يوصل بعض النفسيات المريضة!”.
أما فراس بني صخر، فغرد قائلاً: “الطفلة تم استغلالها عاطفياً بمعنى صدقت كلام أبيها لأنها لا تفرق بين المزح والجد وهي تصور مشهد والدها وبكت بكاء حقيقياً لأنها صدقت الرواية”.
من جانبها، أكدت النائبة في مجلس الأمة الأردني ديمة طهبوب أنه “يجب التصدي بقوة لمثل هذه الجرائم”.
قصص مماثلة
هذه الظاهرة تكررت في عدد من الدول بغرض الشهرة والكسب السريع، وانتشرت مقاطع فيديو أظهرت استغلال الآباء لأطفالهم، من بينها قصة “بسنت وياسين” التي قد تبدو طفولية ومرحة، إذ لم تخرج مشكلة الطفل محمد عن كونها حديث طفل -لم يتجاوز 6 سنوات- إلى والده حول مشاعره تجاه زميلته في المدرسة، إلا أن الأب استغل رواية ابنه ليتطور حديثهما حول خيانة زميلته وأمور أخرى لا تتناسب مع هذه السن، الأمر الذي جعله مادة للتداول والسخرية بين رواد مواقع التواصل، رأوا فيها جريمة نفسية للطفل واعتداء على قيم المجتمع.
كما انتشر مقطع فيديو قبل أعوام لأم تصوّر ابنتها لأنها تبكي وتطلب منها أن تشرب “الأرجيلة”، فاستغلت الأم براءة الطفلة وصورتها وهي تشرب “الأرجيلة” بطريقة أثارت اشمئزاز كثيرين، وطالبوا بمحاكمة الأم التي عرضت ابنتها للمخاطر من أجل ربح المال.
وفي الكويت، اعتُمدت ضوابط لحماية الأطفال على مواقع التواصل الاجتماعي أعدتها اللجنة الوطنية العليا لحماية الطفل بالتعاون مع نيابة الأحداث.
وتنص اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة لاستغلال الأطفال، على حق كل طفل في الحماية من أي شكل من أشكال الإساءة والاستغلال (المادة 32 و 36 من الاتفاقية).