رحمة الله تعالى رحمة واسعة يرجوها كل من وقع في ضيق وينتظرها مع كل عبادة من العبادات بل حتى البعيدين عن الله تعالى لا ييأسون منها.
ومن أعظم النصوص التي تشير إلى عظيم فضل الله تعالى على خلقه قول النبي صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ ” [صحيح البخاري] فما أعظمها من بشارة تثلج الصدور وتريح النفوس.
ومن أجمل الدعاء وأطيب الرجاء ما ورد في القرآن {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] فالداعي بهذا الدعاء يسأل الله تعالى أن يمنحه إحسانًا يشرح به صدره ويصلح به حاله بدأ من نور الإيمان الذي يقذفه الله تعالى في قلوب عباده المؤمنين وكذلك تيسير الطاعة على الأعضاء وتسهيل العيش والحياة مع الصحة والأمن والكفاية وتسهيل سكرات الموت وتيسير سؤال القبر وغفران السيئات والفوز بالجنات.
وقد طمأن الله تعالى قلوب عباده فعلمهم أن الخير بيده لتلتجئ القلوب له وحده قال سبحانه {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] وهذا التعبير يشعرك أن خزائن رحمة الله تعالى مليئة بالخيرات وأنها متى فتحت أصاب الناس منها الكثير والكثير من النفع والبر.
هذه الرحمة لها أهل يستحقونها قال الله تعالى عن بعضهم {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] قال أهل التفسير عنهم أنهم الذين يحسنون أداء الفرائض فقلوبهم معقلة بالمساجد إذا دخلوها لا ينقرون صلواتهم كنقر الديكة بل يصلون صلاة ملئها الطمأنينة والمناجاة وإذا دخل رمضان لم يصوموه وهم يتمنون أن تنتهي أيامه بأسرع وقت وإذا حان وقت الزكاة أخرجوها طيبة بها نفوسهم وتحروا أن يعطوها من يستحقها وإذا جاء وقت الحج تخلصوا من الحقوق التي عليهم وحجوا لله تعالى.
وهم الذين يحسنون الظن بالقدر فيرضون به وإن جهلوا الحكمة منه ويعلمون أن تدبير الله تعالى خير من تدبيرهم.
وهم الذين يعطون السائل والمحروم والمنكوب
والإحسان هو أعلى مقامات الطاعة.
هؤلاء الذين يتصفون بهذه الصفات أو يتصفون ببعضها ويحاولون أن يتخلقوا بالباقي قريبون من رحمة الله تعالى.
ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم التراحم شرطًا لدخول الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا رَحِيمٌ. قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ وَلَكِنْ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ» [المستدرك].
كل الناس يرحم أقاربه ومعارفه هذه طبيعة البشر لكن الرحمة المطلوبة والتي تؤهل لدخول الجنة هي رحمة البشر جميعًا من تعرف منهم ومن لا تعرف الناس يأسون لجراح أحبابهم ويحزنون للآلمهم ولكن إذا نزل الضر بمسلم بعيد عنك لا تعرفه ولم يسبق أن التقيت به فهل تتحرك عاطفتك وتمد يدك لكي تساعده وتشركه في دعائك أن يخفف الله عنه البلوى وأن يعينه على ما هو فيه هذا الذي يحقق الرحمة العامة ومن ثم يؤهل لنيل رضوان الله تعالى.
لقد جعل الله تعالى الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه.
الرحمة بين البهائم هذه غريزية لكن الرحمة بين البشر خلق يجب على المسلم أن ينميه كما ينمي نفسه ويوسع من دائرة معارفه وكما يهتم باكتساب مهارات تفيده في حياته والأخلاق يمكن أن يتعلمها المسلم ويربي نفسه أو يربيه غيره على التخلق بها وهذا سبيله للسعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
أما إذا ترك الإنسان نفسه مع القسوة فإنه بذلك يبعد نفسه عن الله تعالى فأبعد القلوب عن الله القلب القاسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً، شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ. [مسند أحمد]
إن النعمة عند بعض الناس قد تنسيهم المنعم سبحانه وتعالى وتطمس بصائرهم وتجعل إحساسهم متبلدًا لا يشعرون بما يعانيه الآخرون من بؤس وفاقة لذا كان دواء هؤلاء أن يعايشوا المنكوبين في الآمهم وأحزانهم وأن يمسحوا عنهم ذلك قدر ما استطاعوا وهذا التوجيه النبوي الكريم يشعر المرأ بالضعف الذي عليه اليتيم مما يجعله في حاجة لمن يدفع عنه هذا الضعف وذلك بمجاورته ولو لوقت قصير وانظر إلى دواء النبي صلى الله عليه وسلم امسح رأس اليتيم ولم يأمره بان يعطيه من المال ليشعر اليتيم أنه ليس وحده في المجتمع.
وأولى الناس بالرحمة الوالدين قال تعالى في حقهما {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] وذلك لأنهما قد بذلا الكثير.
ويلي الوالدين الأولاد وهم كثيرًا ما يزعجون آبائهم وهم في مرحلة العجز والضعف والحاجة إلى مزيد من الرعاية والمتابعة لذا فهم يحتاجون إلى مزيد من الرحمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن أو الحسين وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحد فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال من لا يرحم لا يرحم وفي رواية أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك.
بين الرحمة والدلال
لكن هناك فارق مهم جدًا بين الرحمة التي تصلح والدلال الذي يفسد، عندما نوقذ أطفالنا في الصباح الباكر ليذهبوا إلى مدارسهم أو عندما يمرضون ونجبرهم على أخذ دواء مر لا يرغبون به أو عندما نمنعهم من سلوك يحبونه لكنه يضرهم هل كل هذا قسوة أم أن ذلك عين الرحمة.
فقسا لتزدجروا ومنْ يكُ حازماً ** فَليَقْسُ أحياناً وحيناً يَرْحَمُ
الطبيب عندما يرى ورما بالجسم لم تنفع معه الأدوية فإنه يمسك بمبضعه لتمزيق اللحم وتنظيفه من أدران هذا الورم وقد يضطر آسفا لأن يبتر هذا العضو حفاظا على بقية الأعضاء كل هذا من الرحمة وإن ظهر بمظهر القسوة.
عندما ترى العقاب الأليم ينزل بالمجرم فإن بعض القلوب ترق له وتتمنى أن يفلت من العقاب لكن عندما تقارن بين ما ارتكبه من جرائم وما يقع عليه من عقوبة شديدة تعلم أن ذلك عين الرحمة به وبالمجتمع الذي يعيش فيه، فليست الرحمة حنانًا لا عقل معه أو شفقة تتنكر للعدل والنظام.
ومن مواطن الرحمة الإحسان إلى من يعملون عندك في البيت أو في العمل والرفق بهم عندما تكلفهم بعمل من الأعمال وأن نعلم أن لهم طاقة محدودة فلا نشق عليهم ولا نكلفهم ما لايطيقون فإن الله الخالق لا يكلف نفسًا إلا وسعها فكيف بالمخلوق عندما يكلف مخلوقًا مثله ولنعلم أن هؤلاء الضعفاء الذين مكننا الله تعالى من أمرهم ونهيهم هم إخواننا في الإنسانية أو في الإنسانية والدين.
ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم من ظلمهم وإيقاع الأذى بهم: قالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي، «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ»، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ»، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا،[صحيح مسلم] ومن مواطن الرحمة الرحمة بالحيوان ذلك الكائن الأعجم الذي لا يستطيع التعبير عما يشعر به من ألم وأذى لكنه مع حالته هذه يأمرنا الإسلام أن نرحمه رأى ابن عمر قصَّاباً يجُرُّ شاةً ، فقال : سُقها إلى الموت سوقاً جميلاً ، فأخرج القصابُ شفرة ، فقال : ما أسوقها سوقا جميلاً وأنا أريد أنْ أذبحها الساعة؟ ، فقال: سقها سوقاً جميلاً. إن هذا الجزار ليتسائل نفس السؤال الذي يدور في أذهاننا كيف أرحمها وأن أريد ذبحها؟ حتى الذبح يجب أن يكون بطريقة جميلة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» [صحيح مسلم].
والرحمة بالحيوان ليس عند ذبحه فحسب بل أثناء حياته عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ [صحيح البخاري] لئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب.
المسلم يرحم جسده هذه الأمانة الغالية التي استأمنه الله تعالى عليها فلا ينهكه أو يحمله فوق طاقته وإذا شعر بالمرض عليه أن يسارع إلى الذهاب إلى طبيب وإذا وصف له الطبيب دواء عليه أن يلتزم به.
يرحم جسده من التدخين والمخدرات التي تتلفه ليبقى له جسده يستخدمه فيما يرضي الله سبحانه وتعالى ويستطيع أن يكمل حياته ببدن ملئه الصحة والعافية.
المجتمع المسلم مجتمع يحتاج إلى الرحمة بين أفراده حتى يبقى قويًا عزيزًا مرهوب الجانب وقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم فهم يقبلون من المحسن ويتجاوزون عن المسئ ويتسارعون إلى نجدة بعضهم البعض ولا ينساقون لمن يروج للفتن ويتتبعون من يشعل نيران الحرب والفرقة بينهم ويكشفون مؤامراتهم الخبيثة وبالجملة فهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى [صحيح مسلم].