إن السنن الإلهية والربانية والأخبار النبوية والتي أصبحت عادة تاريخية لا تتخلف ولا تتبدل تدلنا على أن الظالم في ولايته الذي يجلب المشقة على الخلق: يُبتلى بالمشقة جزاءً وفاقاً من الحق، وفي الحديث عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَتْ لِي: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، قَالَتْ: كَيْفَ وَجَدْتُمُ ابْنَ حُدَيْجٍ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: وَجَدْنَاهُ خَيْرَ أَمِيرٍ، مَا مَاتَ لِرَجُلٍ مِنَّا عَبْدٌ إِلَّا أَعْطَاهُ عَبْدًا، وَلَا بَعِيرٌ إِلَّا أَعْطَاهُ بَعِيرًا وَلَا فَرَسٌ إِلَّا أَعْطَاهُ فَرَسًا، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي قَتْلَهُ أَخِي أَنْ أُحَدِّثَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r فَأَخْبِرْهُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللهُمَّ مَنْ ولِي من أمْرِ أُمَّتِي شيئًا فَشَقَّ عليهم فاشْقُقْ علَيهِ ، ومَنْ ولِيَ من أمرِ أُمَّتِي شيئًا فَرَفَقَ بِهمْ فارْفُقْ بِهِ»([1]).
وكأنني بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يستهدف بالدعاء مَنْ شق على الناس في ولايته، ودعاؤه لمن رفق بهم أن يرفق الله به، قال المناوي: «وهذا دعاء مجاب، وقضيته لا يشك في حقيقتها عاقل ولا يرتاب فقلما ترى ذا ولاية عسف وجار وعامل عيال الله بالعتو والاستكبار، وإلا كان آخر أمره الوبال وانعكاس الأحوال، فإن لم يعاقب بذلك في الدنيا؛ قصرت مدته، وعُجِّلَ بروحه إلى بئس المستقر سقر؛ ولهذا قالوا: الظلم لا يدوم، وإن دام دمّر، والعدل لا يدوم وإن دام عمّر»، وهذا كما ترى أبلغ زَجْرٍ عن المشقة على الناس وأعظم حث على الرفق بهم، وقد تظاهرت على ذلك الآيات والأخبار([2]).
والحديث يشمل الولايات كخلافة وسلطنة وَقَضَاء وإمارة ووصاية ونظارة، وتنكير “الولاية” مُبَالغَة فِي الشُّيُوع للتعميم فيشمل جليل الولاية وقليلها، فهو ظاهر في كل ولاية حتى على الصبيان في الكتاب، وقد ذكر ابن تيمية أن الوعيد على الجور شامل لذلك ولما هو أدون منه، وهذا من أبلغ ما أظهر صلوات الله عليه من الرأفة والشفقة والمرحمة على أمته ([3]).
وكم رأينا من أصحاب نفوذ وولاية، وأهل سلطة وسطوة، وقوة وجند، فأصبحوا -وأهلوهم- في عداد الأذلة وفي ركاب المحاويج ولم تطل مدتهم. وكما قال ابن كثير رحمه الله: “فهكذا أيام أهل الظلم والفساد والبدع قليلة قصيرة”([4]).
وفي هذا السياق، نضرب مثلاً بوزير ذاع صيته في الديار المصرية، وكان نائبًا للسلطة المملوكية بالديار الشامية. وفي قصته مفارقات وأحداث ذات صلةٍ وأشخاص تباينت مواقفهم في سلسلة من عجائب الزمان وغرائبه…
إنه الأمير علم الدين سنجر الشجاعي المنصوري توفي سنة (693هـ =1294م) الأمير الكبير وزير الديار المصرية، ومشد دواوينها، ثم نائب سلطنة دمشق.
اتسم سنجر بالطول وتمام الخلقة مع بياض لونه وسواد لحيته ووقار وهيبة وسكون، وكان في أنفه كبر، وفي أخلاقه شراسة، وفي طبيعته جبروت وانتقام وظلم وعسف، وله خبرة بالسياسة والعمارة، وكان أولاً قد ربي بدمشق عند امرأة تعرف بـ”ست قجا”.
انتقل إلى القاهرة وتعلم الخط وقرأ الأدب، واتصل بالأمير عز الدين الشجاعي، مشد الدواوين، وإليه ينسب بالشجاعي، ثم اتصل بالملك المنصور قلاوون ولما تسلطن تقدم سنجر عنده، وترقى حتى ولاه الوزارة بالديار المصرية، ثم ترقى في وظائف الدولة أيام السلطان خليل، بدسه وسعيه ضد أكابر الدولة وزجهم في السجون والمعتقلات، حتى أنابه السلطان عنه في عموم السلطنة.
وقد أتسم سنجر بقلب حجري، وبأس قوي، وحب للشر وشهوة في الانتقام، ورغبة أكيدة في الكيد للناس، لا يسلم من شره أقرب الخلق منه، ولا أكثرهم إحساناً إليه.
ولما ثقل على المصريين أمر الشجاعي، وكان في الشام بقايا صليبيين، فرأى الملك المنصور أن يرسله إلى دمشق، عله يجد متنفساً لشره وظلمه في أعداء الدولة إذ كان لا بد للأفعى من أن تنهش، وللعقرب من أن تلدغ، وقد صدق ظن الملك ففي الشام وجد الشجاعي متسعاً للأذى في غير المسلمين حتى أحبه أهل دمشق،([5]) لتلطفه بأهلها وقلة شره معهم، واستمر فيها سنين، ثم عُزِلَ.
وكان موكبه بهيئة لا تنبغي إلا لسلطان، وكان له ميل إلى الدين، وتعظيم الإسلام، وقد كان مشرفاً على عمارة البيمارستان المنصوري بالقاهرة. وقد نهض بهذا العمل العظيم وفرغ منه في أيّام قلائل([6]).
مظالم متعددة
لما تولى سنجر الإشراف في أيام سيده المنصور قلاوون على بناء البيمارستان، لم يتخل عن جبروته وبطشه وقسوته فكان يتصيد الصناع والفعلة من أعلى سقالة بالبندق، وإذا سقط أحدهم جثة هامدة لا يظهر عليه تغير ولا يتحرك من مكانه ولا يسأل عن أهله وذويه، بل يأمر بالإسراع في دفنه حتى لا يتعطل العمل.
تقلب سنجر الشجاعي في المناصب وتولى الوزارة وتمكن، وصارت له الكلمة في مدة تقارب الخمسة عشر عاماً كانت همته فيها منصبة على الجدران والبنيان، وليس تعظيم الرحيم الرحمن، ولا عبرة فيها بالإنسان ولا الإحسان.
مع كثرة الدسائس والخيانات والوشايات وظلم الناس وحبس الآلاف منهم بلا جرم ولا ذنب وتركهم رهن الحبس والاعتقال بلا عقوبة معلومة ولا مدة محددة.
من مظالمه بيعه السلاح للروم
في المحرم سنة 686هـ كان التحقيق مع سنجر الشجاعي بحضور السلطان، وكان من جملة التهم الموجهة إليه: «إِنَّه بَاعَ جملَة من السِّلَاح مَا بَين رماح وَنَحْوهَا مِمَّا كَانَ فِي الذَّخَائِر السُّلْطَانِيَّة للفرنج، فَلم يُنكر الشجاعي ذَلِك وَقَالَ: بِعته بالغبطة الوافرة والمصلحة الظَّاهِرَة؛ فالغبطة أنني بعتهم من الرماح وَالسِّلَاح مَا عتق وَفَسَد وَقل الِانْتِفَاع بِهِ وَأخذت مِنْهُم أَضْعَاف ثمنه والمصلحة أَن تعلم الفرنج أَنا نبيعهم السِّلَاح هواناً بهم واحتقاراً بأمرهم وَعدم مبالاة بشأنهم. فَمَال السُّلْطَان لذَلِك وَقَبله.
وكان الرد عليه في نفس المجلس بأن الفرنج وَسَائِر الْأَعْدَاء يشيعون فِيمَا بَينهم وينقله الْأَعْدَاء إِلَى أمثالهم بِأَن صَاحب مصر وَالشَّام قد احْتَاجَ حَتَّى بَاعَ سلاحه لأعدائه.
فَلم يحْتَمل السُّلْطَان هَذَا وَغَضب على الشجاعي وعزله فِي ربيع الأول وَأمر بمصادرته على جملَة كَثِيرَة من الذَّهَب وألزمه أَلا يَبِيع فِي ذَلِك شَيْئاً من خيله وَلَا سلاحه.
مظلمة أخرى
وفي سياق ذلك ظهرت مظلمة أخرى، وهي: اعتقال الناس وحبسهم؛ فكان أكثر حنق السلطان عليه أنه بلغه عنه أنه قد أفحش في المظالم، واستجلب الدعاء على دولته من العالم، وأن في سجنه جماعة كثيرة عدتهم مئون، وقد مرت عليهم شهور وسنون، وقد صار موجودهم كله جعلاً للرسل وبرطيلاً(رشوة) للمقدّمين.
فَبَلغهُ النَّاس مَا اعْتَمدهُ السجاعي من الظُّلم فِي مصادرة جمَاعَة وَأَن فِي سجنه كثيراً من المظلومين بَاعُوا موجودهم ووضع من أفرج عنه تحت المراقبة وتحديد الإقامة ومع فرض الضرائب اضطروا لبيع أملاكهم والاستدانة وارتكاب الرشوة من أجل نيل جزء من حريتهم ([7]) فرسم السُّلْطَان بالكشف عَنْهُم وَأَفْرج عَن سَائِرهمْ»([8]).
فباء بأجرهم كما باء الشجاعي بإثمهم، ووجد سوء عاقبة ظلمهم، وكانت هذه النقمة الحالّة به بأدعيتهم، فلله درّ القائل:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه … وما يدريك ما فعل الدعاء
سهام الليل ما تخطئ ولكن … لها أجل وللأجل انقضاء
ثم ولّى السلطان الأمير بدر الدين بيدرا المنصوري الوزارة عوضاً عن علم الدين سنجر الشجاعي، فأحسن فيها السيرة، وعامل الناس في اللطف، وانكفّت في أيامه المرافعات، وقلّت المصادرات، وانجلت ظلم الظلمات، وذاقت الدواوين حلاوة الأمن من بعد مرارة الخوف([9]).
الجريمة الثالثة
كتب المؤرخ ابن تغري بردي (ت٨٧٤هـ) واصفًا الوزير سنجر بقوله «وفي أخلاقه شراسة، وفي طبيعته جبروت وانتقام وظلم وعسف قلت ومما يدل على هذا قول النويري عنه:” كان إذا ذكر أحد للوزارة أو ذكرها عمل على هلاكه» ([10]).
ومن هؤلاء «الأمير حسام الدين أبو سعيد طرنطاي بن عبد الله المنصوري الأمير الكبير، كان أوحد أهل عصره، وعظيم دولة أستاذه الملك المنصور قلاوون؛ ونائبه بسائر الممالك، والمتصرّف في مملكته فلمّا مات المنصور قلاوون وتسلطن الأشرف خليل استنابه أيّاماً إلى أن رتّب أموره ودبّر أحواله، ورسخت قدمه أمسكه، وكان في نفسه منه أيّام والده، وبسط عليه العذاب حتى مات شهيداً وصبر على العذاب صبراً لم يعهد مثله عصر إلى أن هلك، ولمّا غسّلوه وجدوه قد تهرّأ لحمه وتزايلت أعضاؤه، وأنّ جوفه كان مشقوقاً، كلّ ذلك ولم يسمع منه كلمة.
وكان بينه وبين الأمير علم الدين سنجر الشّجاعي عداوة على الرّتبة، فسلّمه الأشرف إلى الشّجاعي وأمره بتعذيبه، فبسط الشجاعي عليه العذاب أنواعاً إلى أن مات.
كان سديد الرأي، مفرط الذكاء غزير العقل وله مواقف مع العدوّ، وغزوات مشهورة وفتوحات، وبنى مدرسة وقبّة حسنة بقرب داره بالقاهرة، وله أوقاف على الأسرى وغيرها. وكان فيه محاسن لولا شحّه وبذاءة لسانه لكان أوحد أهل زمانه، وخلّف أموالاً جمّة استولى عليها الأشرف خليل وسنجر الشجاعي، وفرّقه على الأمراء والمماليك في أيسر مدّة؛ واحتاج أولاد طرنطاي هذا وعياله من بعده إلى الطلب من الناس من الفقر.([11]).
الجريمة الرابعة
وهذه الجريمة والمثلبة نابعةً من كبره فقد قاده غروره وحدثته نفسه بما فوق الوزارة، ولم يكتف سنجر الشجاعي بما وصل إليه، وأخذ يعمل على استئصال جميع معارضيه، والانفراد بالحكم وحده فدبر مع بعض الأخساء مؤامرة لقتل جميع الأمراء والعلماء والقادة والعظماء، ووعدهم بأن من قتل أميراً أو عظيماً فله جميع تركته، وأخذ ينفق من خزانة الدولة في سبيل هذا المأرب، حتى بلغ ما أنفقه في يوم واحد ثمانين ألف دينار، وعين لتحقيق الغرض يوماً معلوماً وأوصى بالتكتم حتى يؤخذ الخصوم على غرة.
كان من بين من أغراهم هذا الشجاعي ومناهم سيف الدين قنقغ التتاري، فأخذته العصبية الجنسية للأمير كتبغا لأنه كان تتاري الجنس، وحذره وأطلعه على كل شيء، فجمع كتبغا أمراء الدولة وعظماءها وبعد أن تحققوا من صدق الرواية ذهبوا إلى القلعة وحاصروها ليقبضوا على الشجاعي.
الذهب والشعب
أغلق الشجاعي أبواب القلعة، وأخرج صرر الذهب من الخزانة، وأخذ يفرقها على البرجيه حتى انحاز إليه فريق منهم، وظل يعد ويمني ويرشو حتى تجمع حوله العدد الكافي. فخرج من القلعة وهاجم كتبغا وأصحابه فهزمهم وفروا إلى بلبيس، ورأى الشعب ذلك فثارت ثائرته وتدخل في الأمر ضد الشجاعي الظالم وهجم الأهالي هجمة رجل واحد حتى أدخلوا الشجاعي ومن معه قلعة الجبل وحاصروهم وقطعوا عنهم الماء، فعاد كتبغا ومن معه وانضموا للشعب، ودام الحصار (إلى أن طلعت الست خوند والدة السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى أعلى السور وكلمتهم بأن قالت لهم! إيش هو غرضكم حتى إننا نفعله لكم؟ فقالوا مالنا غرض إلا مسك الشجاعي وإخماد الفتنة) فأمرت بإغلاق باب منزل الشجاعي عليه وكان داخل القلعة، فأصبح في حصارين أحدهما خارج الأسوار، والثاني داخل القلعة.
ولما رأى أصحابه ذلك، ولا ينحاز إلى مثله بالطبع إلا كل خسيس نفعي، يكثر عند الطمع ويقل عند الفزع، والطيور على أشكالها تقع، أقول لما رأى أصحابه ذلك، تفرقوا عنه وانضموا إلى أعدائه ثم انقض عليه بعضهم وقطع رأسه وأظهره للشعب من فوق سور القلعة، فدقت البشائر وعمت الأفراح جميع البلاد.
الثأر من رأس الغريم
علم بعض صيادي المال من المصريين كراهية الشعب للشجاعي فاستولوا على رأسه وطافوا به الأنحاء على أعلى رمح، وتسابق المصريون في شفاء صدورهم من رأس عدوهم، فتهافتوا على النيل منه وغالى حاملو الرأس في تقاضي الثمن (حتى بلغت اللطمة على وجهه بالمداس نصف درهم، والبولة عليه درهم) ولم يكف المخدرات صنيع الرجال، فطلبن من أزواجهن المشاركة في الإهانة (فكانوا يأخذون الرأس ويدخلونه بيوتهم فتضربه النسوة بالمداسات) ولم يفرغ حاملو الرأس من مهمتهم حتى امتلأت جيوبهم وبعد أن جبوا عليه مصر والقاهرة وحصلوا مالاً كثيراً، وغلقت أسواق القاهرة وحوانيتها خمسة أيام ابتهاجاً بزوال عهده (وسبب ذلك ما كان اشتمل عليه من الظلم ومصادراته للعالم وتنوعه في الظلم والعسف).
دالت الدولة
بعد أن هدأت الفتنة وأصبح الشجاعي في خبر كان، قبض كتبغا نائب السلطنة على أعوانه والمتآمرين معه، وأطلق سراح المعتقلين، وكان من جملتهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن بعد ذلك على الديار المصرية، ومن الله على الذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين.
حتى الترحم عليه
قال قاضي القضاة نجم الدين بن شيخ الجبل: كنت ليلة نائماً فاستيقظت وأنا أحفظ البيتين الآتيين:
عند الشجاعي أنواع منوعي … من العذاب فلا يرحمه الله
لم تفن عنه ذنوب قد تحملها … من العباد ولا مال ولا جاه
وكان ذلك في نفس الليلة التي قتل فيها الشجاعي نعوذ بالله من سوء الخاتمة. ([12])
قال الذهبي: «قُتِل شر قِتْلة.. ثُمَّ طافت المشاعلية برأسه فِي الأسواق وجبوا عليه والناس يشتمونه لظُلمه وعسفه، فلا قوة إلا باللَّه، ومات وقد قارب الخمسين»([13])
كان سنجر الشجاعي وزير الديار المصرية في عهد الناصر محمد بن قلاوون من أقسى المماليك وأظلمهم، فلما قتل وطافوا برأسه على مشعل قال سراج الدين الوراق:
أباد الشجاعي رب العباد.. وعقباه في الحشر أضعاف ذلك
عصا ربه فالعصا نعشه.. وشيع للدفن في نار مالك»([14]).
إيذاؤه أهلَ الذمة
ومن عجائب موت هذا الرجل أن أكثر الشامتين في موته كانوا هم أهل الكتاب من الأقباط، وقد عرض ابن تغري بردي صورًا من شماتة الأقباط بمقتل سنجر الشجاعي وطواف الناس متلاعبين برأسه وسبب ذلك ما كان اشتمل عليه من الظلم ومصادراته للعالم وتنوعه في الظلم والعسف، واستنكر ابن تغربردي هذا وعقب بقوله “:وهذا غلط فاحش من المشاعلية، قاتلهم الله، فإنه ولو كان عنده من الظلم ما كان هو خير من الأقباط»([15]).
ولكن المؤرخ العلامة المقريزي ذكر سبب تشفيهم من رأسه وهو ميت فقال :«وفي سنة(682هـ) كانت واقعة النصارى، ومن خبرها أن الأمير سنجر الشجاعيّ كانت حرمته وافرة في أيام المنصور قلاون، فكان النصارى يركبون الحمير بزنانير في أوساطهم، ولا يجسر نصرانيّ يحدّث مسلماً وهو راكب، وإذا مشى فبذلة، ولا يقدر أحد منهم يلبس ثوباً مصقولاً، فلما تسلطن الملك الأشرف خليل بعد أبيه، خدم الكتاب النصارى عند الأمراء وقوّوا نفوسهم على المسلمين، وترفعوا في ملابسهم وهيآتهم، وحدث أن استطال كاتب نصراني على سمسار وربطه واجتمع الناس عليه وتحزب له بعض النصاري فكاد الناس أن يفتكوا بهم ، ووصل الخبر للسلطان ولما عرف حقيقة الأمر أمر بإحضار النصارى إليه، وأمر الأمير بيدرا النائب، والأمير سنجر الشجاعيّ، بإحضار جميع النصارى بين يديه ليقتلهم، فما زالا به حتى استقرّ الحال على أن ينادي في القاهرة ومصر، أن لا يخدم أحد من النصارى واليهود عند الأمير، وأمر الأمراء بأجمعهم أن يعرضوا على من عندهم من الكتاب النصارى الإسلام، فمن امتنع من الإسلام ضربت عنقه، ومن أسلم استخدموه عندهم، فاختفى جميع مباشري ديوان السلطان ، فصارت العامّة تسبق إلى بيوتهم وتنهبها، حتى عمّ النهب بيوت النصارى واليهود بأجمعهم، وأخرجوا نساءهم مسبيات، وقتلوا جماعة بأيديهم، فنادى منادي من قبل الأمراء من نهب بيت نصرانيّ شنق، وقبض على طائفة من العامّة وشهرهم بعد ضربهم، فانكفوا عن النهب.
ثم أراد السلطان حفر حفرة لهم وإحراقهم، فتقدّم الأمير بيدرا وشفع فيهم فسمح بأن من أسلم منهم يستقرّ في خدمته، ومن امتنع ضربت عنقه، فأخرجهم واستسلمهم، وكتب بذلك شهادات عليهم، ودخل بها على السلطان ثم أخذهم إلى مجلس النائب وبه القضاة فجدّدوا إسلامهم بحضرتهم، فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزاً، يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره، ولقد قال القاضى تاج الدين بن السفلورى لما سئل عن إسلامهم :”إن الذليل منهم صار عزيزا، والعزيز من المسلمين صار ذليلا لهم، فإنه كان يمنعهم من ظلم الناس ومن التكبر عليهم كونهم نصارى، فالآن يقولون: نحن مسلمون، فيتسلطون عليهم والله يتولى سرائرهم”.
وما هو إلا كما كتب به بعضهم إلى الأمير بيدرا النائب:
أسلم الكافرون بالسيف قهرا … وإذا ما خلوا فهم مجرمونا
سلموا من رواح مال وروح … فهم سالمون لا مسلمونا » ([16]).
مواقف العلماء
ولأهل التاريخ طريقة في المدح والذم وهي أقرب للوعظ والتربية بالممارسة من خلال ما يؤرخون، فإنهم ذكروا أن مما يعاب به المرء صحبة الأشرار، كما أنه يمدح بصحبة الأخيار، والمؤرخون المسلمون أهل إنصاف في الغالب الأعم فهم يذكرون ما يمدح به المرء وما يعاب مما هو واقع فعلاً من خلال الأحداث التي دونوها مشاهدة أو نقلاً عن الثقات.
وكذلك هنا ملحظ مهم وهو موقف العلماء الذي هو البيان لمواجهة الطغيان ونشر الرحمة والعدل، فلا يقبل من عالم السكوت في موضع يجب فيه الكلام لأن مجرد صحبة الظالم من عالم تعني التأييد وتسوغ له الظلم كما أن السكوت ركون.
وفي قصتنا نجد ذلك واضحاً في ثلاث ترجمات يتبين من خلالها أصناف العلماء تجاه الظلم والظالم:
الترجمة الأولى
تأييد الظلم ومشاركته بل وسبقه إلى موطن الظلم وهو الموقف الذي رأيناه في ترجمة ناصر الدين ابن المقدسيّ [629 – 689] الملقب بالمشنوق ([17]) وهو محمد بن عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن موسى بن عبد الرحمن بن يوسف بن موسى، أبو المكارم، وأبو عبد الله، وأبو المعالي، ناصر الدين، ابن أبي محمد، المعروف بابن المقدسيّ، الشافعيّ.
فإنه شارك علم الدين الشجاعي في ظلمه بل وكان دليلاً له على المظالم ومواطنها فأصبح علم الدين معيناً له بل وكان ناصر الدين يظلم في حمايته ولا ندري أيهما أظلم، ولكن الذي نوقن به أن نهايتهما كانت شنيعة مثل مظالمهم والجزاء من جنس العمل.
وتدلنا كتب التاريخ أنه فِي سّنة (686هـ) لما اجْتمعَ نَاصِر الدّين بالأمير علم الدّين الشجاعي مُدبر الدولة أدخله على السلطان وأخبره بأشياء منها: أمر بنت الملك الأشرف موسى بن العادل وأنها باعت أملاكها وهي سفيهةٌ تساوي أضعاف ما باعته فوكّله السلطان وكالةً خاصّةً وعامّةٌ فرجع إلى دمشق وطلب مشتري أملاكها بعد أن أثبت سفهها فأبطل بيعها واسترجع الأملاك، كل ذلك كان بالزور والبهتان والتلفيق للاستيلاء على أملاكها ومصادرة أموال وأملاك من أشترى هذه الأملاك والتسلط عليهم.
وتوسط له الشجاعيّ في ولايته، فتولى وكَالَة بَيت المَال وَنظر جَمِيع الْأَوْقَاف بدمشق سنة 687هـ، حتى ولّاه السلطان الملك المنصور قلاوون، وتوجّه إليها، ومعه عدّة من المشدّين، فأرجف بدمشق، وسار إليه أرباب السعايات، فتتبّع الناس، وقصد انتزاع الأملاك من يد أربابها بطرق رديئة، وَفتح أَبْوَاب الظُّلم وخلع عَلَيْهِ بطرحة غير مرّة وخافه النَّاس، وظلم وعسف وعدى طوره وتحامق حَتَّى تبرم بِهِ النايب وَمن دونه.
ولم يوافقه قضاة دمشق، وبغضوه وكثُرت الشناعة عليه، وكوتب السلطان فيه، فكتب في جمادى الآخرة سنة 689هـ فجَاء الْجَواب بالكشف عَمَّا أكل من الْأَوْقَاف وَمن أَمْوَال السُّلْطَان وابرطيل فرسموا عَلَيْهِ بالعذراوية وضربوه بالمقاريع فَبَاعَ مَا يقدر عَلَيْهِ وَحمل جملَة وذاق الهوان واشتفى مِنْهُ الأعادي. فظهرت عليه مجازف ومحارم شنيعة فورد المرسوم بضربه بالمقارع، فضرب وشرع في بيع موجوده وحمل المال، ثمّ ورد البريد بحمله إلى مصر، فوجد في يوم الجمعة غده، وقد شنق نفسه، فكان قد خسر الدنيا والآخرة، نسأل الله العافية» ([18]).
الترجمة الثانية
وهي ترجمة مفصحة عن صنف من العلماء لم يأخذوا على يد الظالم ولم ينكروا عليه بل سكتوا وسكوتهم إعانة وشبهة ركون بل تشجيع بالرضا والمتابعة.
وهذا ما جاء في ترجمة القاضي مجد الدين، أبو الروح، ابن أبي حفص، المعروف بابن الخشّاب، المخزوميّ الشافعيّ (ت 711هـ) قالوا عنه:” كان فاضلاً مهاباً، له حظّ من حسن العبارة ويد في الفقه، إلّا أنّه عيب عليه دعابة كانت فيه وهزل يتظاهر به وكثرة مخالطته للأمير علم الدين سنجر الشجاعي، ولم يكن له نظر ولا هو متفرّغ للعلم، وكان كثير الكتب متّسع الحال من الدنيا» ([19]).
الترجمة الثالثة
تظهر نوعاً من العلماء الصادعين بالحق والمنكرين على أهل الباطل والظلمة ممن تعنتوا مع الناس وساموهم سوء العذاب وأولئك لا يخافون في الله لومة لائم ويخشون الله وحده ولا يخشون سواه؛ وهذا ما نجده في ترجمة العلامة ابن النقيب محمد بن سليمان بن الحسن بن الحسين العلامة جمال الدين أبو عبد الله بن أبي الربيع البلخي الأصل المقدسي الحنفي خرج من القاهرة إلى القدس، فتوفي به في محرم سنة 698.
كان أحد الأئمة العلماء الزهاد، عابداً متواضعاً، عديم التكلف، صرف همته أكثر دهره إلى التفسير، و«تفسيره» مشهور في نحو مائة مجلد، كان بعينيه ضعف، وقدم القاهرة، ودرّس بالعاشورية ثم تركها، وأقام بسطح الجامع الأزهر.
وكان أمّاراً بالمعروف، نهّاءً عن المنكر، لا يخاف من ذي سطوة، أنكر على الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وقال له: أنت ظالم، لا تخف الله، فاحتمله وهابه بل وطلب رضاه ([20]).
تلك صفحة من تاريخ الظلم والإفساد… الذي ساءت به حياة الناس وبلغ بهم ضنك العيش مبلغًا كبيرًا… ورأينا كيف كانت عاقبة الذين أساؤوا السوء.. وكيف انتقم الله تعالى منهم وجعلهم أحاديث..
والله من وراء القصد.
___________________________________________________
[1]) أخرجه أحمد (6/93، ح24666)، مسلم في “صحيحه”(1828) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، من طريق جرير بن حازم، وابن وهب، كلاهما عن حرملة، عن عبد الرحمن بن شماسة. مختصرًا وأخرجه أيضًا: أبو عوانة (4/380،ح7023)، وابن حبان (2/313،ح553)، والبيهقي (10/136،ح 20253).
[2]) فيض القدير (2/ 107)
[3]) التيسير بشرح الجامع الصغير (1/208)، دليل الفالحين (5/117)، التنوير شرح الجامع الصغير (3/99)، النهاية (2/246)، فيض القدير (2/107)، شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (8/2570).
[4]) البداية والنهاية (10/339).
[5]) مصر تنتقم من وزير للأستاذ عطية الشيخ مفتش المعارف بالمنيا «مجلة الرسالة»«العدد 867- بتاريخ: 13/2/1950»
[6]) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة(7/ 327)
[7]) قال المؤرخون (وَبَاعُوا موجودهم حَتَّى أَعْطوهُ فِي التراسيم) الترسيم: يعني الحَجْر أو التوقيف أو ما يقابل في عصرنا الإقامة الجبرية، أو المراقبة، و كثيرًا ما يُرْسَم على الفقهاء أو القضاة في المدرسة من المدارس .، ويقال رُسِمَ على فلان أي وضع تحت المراقبة بعد عزله بأمر من السلطة المختصة “. معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي (ص: 44) (وَفِيهِمْ من استعلى وسال بالأوراق) جمع ورقة وهو الصك يكتبه المدين للدائن. انظر هامش نهاية الأرب في فنون الأدب(31/ 153). السلوك لمعرفة دول الملوك(2/ 203) نهاية الأرب (31/ 153)
[8]) السلوك لمعرفة دول الملوك(2/ 203) نهاية الأرب (31/ 153)
[9]) عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان [٦٤٨ – ٧١٢ هـ]» (2/ 369)
[10]) نهاية الأرب في فنون الأدب (32/ 290)
[11]) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (7/ 383) بتصرف .
[12]) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (8/ 43)
[13]) تاريخ الإسلام (52/ 185)
[14]) مجلة الرسالة العدد 766-مارس1948»الشعر في العصر المملوكي هل يمثل الحياة فيه؟ للأستاذ يوسف البيومي.
[15]) المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي(6/82). النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة (8/46)
[16])المواعظ والاعتبار(4/416)عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان[٦٤٨-٧١٢ هـ](3/184)
[17]) الوافي 3/ 236 (247) ولقبه: المشنوق، السلوك 1/ 735، ابن الصقاعيّ 159 (267)
[18]) المقفى الكبير(6/ 33) وانظر ترجمته في الوافي بالوفيات(3/ 195) الدارس في تاريخ المدارس (1/ 203) تاريخ الإسلام (51/ 386) السلوك لمعرفة دول الملوك (2/ 198)
[19]) المقفى الكبير (4/ 387)
[20]) طبقات المفسرين للداوودي (2/ 149) له ترجمة في: الأنس الجليل (2/ 217)، الجواهر المضيئة(2/ 57)، حسن المحاضرة(1/ 467)، طبقات المفسرين للسيوطي 32، العبر للذهبي 5/ 398، الفوائد البهية 168، النجوم الزاهرة 8/ 188