بقلم: عبدالعزيز بدر القطان (*)
شَهد العصر العثماني، والانتداب البريطاني، والعهدين الملكي والجمهوري، كان في كل عهدٍ من هذه العهود نجماً لامعاً، كاتباً معارضاً لكل خطأ، ومؤيداً لكل موقفٍ صحيح، هو عالم وأديب وشاعر ومحقق، وابن بغداد الرشيد، فارساً وتلميذاً نجيباً، ومتماً للقرآن الكريم تلقيناً وتجويداً، من الكتاتيب إلى المدرسة النظامية والسلطانية، ثم الإليانس اليهودية فالثانوية المركزية في بغداد، فكيف يُعرف وهو العضو في لجنة تنفيذ قانون يحاسب على “من أين لك هذا؟”، قرن أدب الدرس بأدب النفس، لتكتمل الحكاية، وما بحثنا إلا رحلة قصيرة في بحر هذا العالِم الجليل، نتعلم منه، ونذكّر به، أسوةً بكل العلماء العرب من كل أطياف وألوان المعمورة.
عاصر احتلال الإنجليز للعراق بين عامي 1914 – 1920م، وكذلك شهد ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م وكان ثائراً شعراً حيث قال:
غمزوا إبائك فاضطرمتَ إباء وحشدت جوّك والثرى والماءا
راموك للذل المقيم وقد مضى دهر تسام به الشعوب سباءا
من رحم المدرسة العراقية التي تشرّبت وتشبّعت من عذب المدرسة العباسية مروراً بكل ما جاء بعدها، عندما كانت في أوج حضارتها الأدبية والثقافية والعلمية، خرج إلى العالم الأديب والمثقف وراهب اللغة العربية ابن مدينة السلام “بغداد الرشيد”، ابن ذاك الزمن الجميل، الشخصية الأسطورية في التصنيف والمتابعة التأريخية وفي الأنساب، وأحد أهم العلماء الموسوعيين في القرن العشرين، الراهب في صومعة اللغة والعاكف على إحياء كنوزها، الأثري المسافر في المعاجم ومخطوطات التاريخ، والمُبحر في الخرائط القديمة، والنقّاش الماهر لحروف الخط العربي، خطيب المنابر، وفارس المجامع العلمية، الشيخ في المساجد والمُصلح في الحياة، إنه العلامة الكبير محمد بهجت الأثري.
العلامة محمد بهجة الأثري، المتمكن من أربع لغات، وفي مقدمتها اللغة العربية التي مكنته من الشعر الجميل، فقال عنها:
أحببتها حب نفسي والهوى غرد وحبها الروح والريحان والرغد
وضيئة شاق زهو الورد زاهرها والورد أنفس ما يشتاقه الخلد
رفيعة القدر أخت الشمس عالية يُرى لها فوق عرش الشمس مقتعد
ثراء الأثري
محمد بهجة (بهجت) الأثري (1904 – 1996) ابن محمود أفندي بن عبدالقادر بن أحمد بن محمود، عُرف كرجل قوي لغوياً، وكان يملك روحاً جميلة، وببساطة وبعدما قرأت مؤلفاته، هي تتحدث عنه، فهو الشغوف بالعلم، اللغوي والمحقق والمؤرخ والأديب والشاعر، وله الأثر العريق في متون الكتب والمراجع اللغوية والخط العربي رسماً وضبطاً، كيف لا وهو الذي تتلمذ على يد أستاذه محمد شكري الآلوسي (1856 – 1924)، أديب ومؤرخ عراقي، وهو أحد علماء أهل السنة في العراق وهو من المتمسكين بمنهج السلف الصالح ومن أحد الشخصيات البارزة في العالم العربي والإسلامي)، الذي حقق له آثاره ونشرها، وكذلك الشيخ علي بن علاء الدين الآلوسي من أحفاد شهاب الدين أبو الثناء الآلوسي (1861م)، وهو فقيه ومحدث وواعظ وقاضي من القضاة المعروفين بالنزاهة والأمانة)، وقيل ذات مرة، أن قال محمد بهجت لشيخه “أريد معرفة الفقه الإسلامي الحقيقي”، فرد أستاذه إذاً أنت أثري !! قال ما المقصود بالأثري، قال أستاذه من يقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً”، فتكنى بها محمد بهجة الذي عُرف بعدها بالأثري.
تراث الأثري زاخر بالعطاءات والعلوم، فهو الحاصل على إجازات، نظم الشعر وحقق في التاريخ شغل منصب مدير الأوقاف، وأسس مع نظرائه المجمع العلمي العراقي، وترأسه لاحقاً، ونال عضوية مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة والرباط وعمّان، لتكون نقطة التحول لدى الأثري هي تتلمذه على يد الآلوسيين حيث بقي لهذه العائلة وفياً طيلة حياته.
يقول الأثري، “لقد عشقت اللغة العربية لأنها المكون الأول للثقافة، فاللغة هي الوعاء الذي يحمل الفكر والعقيدة ويحمل الفلسفة والسياسة، والمدرسة التي انتميت إليها (العربية الإسلامية) كانت خير معبّرٍ عن هذا التفاعل بين هذه اللغة وجميع شؤون الناس”. من هذا القول يتبين أنه كان يهدف من تعلم اللغة العربية، قيام نهضة عربية إسلامية، فعلى الرغم من منهجه السلفي، لكن بما يتعلق باللغة فلقد كان من المتنورين في مناهج اللغة وإصلاحها، فلم يخرج أحد بعد بأهميته في توسيع مديات اللغة العربية. يقول الأثري: “يتهمني البعض بالقسوة ويرى فيها طبعاً لا يتبدل في شخصيتي، لكنني رجلٌ صاحب قضية، قضيتي أمة ومصير، استمسك بعُراها وأشدها شداً، ونحن أمة الحق والعدل والإنصاف، وأنا لست قاسياً إلا في مجال الفكر والقلم، وأنا أعلن كلمتي في نيةٍ صافيةٍ وقلبٍ سليم، ولا أدّعي العصمة لكن هناك من يخلط بين القسوة والصراحة، وللناس في ما يرون مذاهب”. فالأثري أزهري النزعة في الفكر والاجتماع، ومصري الهوى في الشعر والأدب.
قال الأثري في رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي:
ألا.. لست أنسى منك مجلس حكمةٍ على بردى قد مرّ مذ سنوات
خيالاً كلذّات السرور على الهوى وخفقاً كلمح الثغر والوجنات
أخذت هوى نفسي ببشرك طافحاً وآنستني باللطف والبسمات
كان الأثري متقناً للخط العربي رسماً وضبطاً، وله نماذج من خطه في المجمع العلمي العراقي، وله مؤلفات كثيرة، فلقد حقق عدداً من المخطوطات ونشْرِها وشرْحِها وتهذيبِها، ومن بينها عدد من مؤلفات أستاذه “محمد شكري الآلوسي”، وكتابه البارز “خريدة القصر وجريدة العصر” الواقع في 6 أجزاء وهو الكتاب الذي نال عليه جائزة الملك فيصل العالمية للآداب العام (1986م)، أيضاً لديه كتاب “أعلام العراق” الذي يحوي تراجم أهل العراق وهو مؤلف نادر من نوعه في السبك والصياغة، ولديه “المجمل في التاريخ العربي، والموفق في التاريخ العربي، ومهذب تاريخ مساجد بغداد وآثارها، ومأساة الشاعر وضاح اليمن، والاتجاهات الحديثة في الإسلام، ومحمود شكري الآلوسي سيرته ودراسته اللغوية، والظواهر الكونية في القرآن، وصورة الأرض للإدريسي”، وحقق الكثير من كتب التراث العربي الإسلامي، رغم كل هذا العطاء الكبير والعلم الجليل لكن القوميون أغفلوه لأنه كان يهتم بالعروبة والإسلام، وأغفله الشيوعيون لاعتباره يمينياً، وأغفلته المدرسة الحديثة لأنه يعتبر من المدرسة الكلاسيكية التقليدية، لأن المصالح تغلب على العلم كمن يمحي صورة زعيم سابق من مشهد سينمائي، ويحذف اسم ما من مقال أو كتاب، وهذا مأخذ على رفضنا للآخر خاصة إن لم نتفق معه، وهذه هي مشكلة عالمنا اليوم مع شديد الأسف، اليوم انكشف موقف الإلحاد من الإسلام وتبين أنه كان خاطئاً، فعملية دثر العلماء تبدو ممنهجة هي الأخرى، لكن اليوم الوضع مختلف، فبعد أن انكشفت الحقائق لا بد من إعطاء كل ذي حق حقه.
من شعر الأثري: بسمت لبغدادٍ وبغداد ثاكلة.. فلم ترَ إلا أن تهش مجاملة.. بغداد ثغرٌ صاغه الله باسماً لكل أديبٍ حط فيها رواحله.
لكن رغم أني زرت العراق مراراً، والجميع يعلم عراقة شارع المتنبي، التي ومع الأسف فتشت كثيراً لكن لم أجد مؤلفاً واحداً له حتى على أرصفة هذا الشارع في بغداد وهو ابن مدينة السلام، في العصر الحالي، فهو ابن العراق أن لا تجد كتبه في بلده ولا أثره له ولا أحد يعرفه، وتجدها في المملكة العربية السعودية وفي الكويت ولدى طلبة العلم خارج العراق، حتى رسائل الدكتوراه المتعلقة به وجدتها في الأزهر الشريف، وعلماء اللغة في مصر مهتمين جداً بكتبه وتراثه وتجد أثر الأثري في كل المجلات العلمية القيّمة القديمة خارج العراق، أمر لا أعرف بماذا أصفه؟! لكن الوصف الصحيح أن هذا الأمر “كارثة كبرى”.
السعودية على سبيل المثال تقدّر العلماء المبدعين في زمن من الأزمنة خاصة في فترة السبعينات والثمانينات ويستعينون بخبرات أولئك العلماء، اليوم الجامعات الإسلامية على امتداد المملكة استفادت من كل علماء العرب من سوريا والعراق ومصر (الأزهريين تحديداً)، وإن اتجهنا نحو دولة الإمارات العربية تجد إمارة الشارقة تسير على نهج وخطى المملكة العربية السعودية في آخر 30 سنة، عدا بقية الدول الأخرى، لماذا؟
كل هذا المخزون العلمي والإرث الثقافي الذي خرج من العراق، لماذا لا يلقى اهتماماً؟ هل هي المحاصصة الطائفية؟ أو هو التشدد المذهبي؟ هل كل هذه الأسباب مجتمعة هي السبب؟ ما ولّد انقطاع معرفي! إذاً، الظروف السياسية هي السبب لأنها ألقت بظلالها على الناس وحطمت ما لديهم وباتت اهتماماتهم محصورة بتأمين لقمة عيشهم، اليوم لا يوجد لمؤلفات محمد بهجة الأثري ومصنفاته حضور في العراق، لكن يوجد له حضور في كلام أغلب الباحثين في القضايا السياسية والاجتماعية والحركية الإسلامية، وكذلك في القضايا المتعلقة في رصد الخلافات والمناكفات والسجالات والمراسلات التي شهدها القرن الثالث عشر الهجري.
الأثري تحفة أثرية بغدادية لا عجب أن لقبه راهب اللغة العربية لتمكنه منها وعشقه لها، فالعلم لا يعطيك جزءاً منه حتى تعطيه كلك، وهذا ما فعله الأثري، لكن عقيداً إن ميل الأثري زائد قليلاً بإتجاه محمد بن عبد الوهاب، وتبين ذلك من خلال كتاباته حيث كان يبرر لمحمد بن عبد الوهاب من كل التناقضات التي قام بها أتباعه، إلا أن الحقيقة تقول إن الأثري وضع أسس منهجية، وكان ملازم للعلماء في عصره، فكان يحضر المجالس العلمية وكان مرافقاً لأستاذه الآلوسي، وكان فخوراً بأنه تتلمذ على يد أستاذه الآلوسي، فلم يتخصص بالعلوم الشرعية أو إصدار فتاوى، بل حافظ على نهجه بمد الشعوب قاطبةً بعلمه دون تمييز.
كما أن لمسات الأثري في التأليف هي لمسات رائعة جداً، لديه تهذيب على سبيل المثال لإحدى رسائل “محمود شكري الآلوسي”، ولديه مقدمات لبعض المؤلفات للآلوسي أيضاً، ولديه تعليق على كتاب بعنوان “المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد” وضع مقدمته وعلق عليه ما بين براعة كبيرة في مسألة التتبع، كتاب تلمس فيه علمية هذا الرجل من ناحية الإلمام بالأنساب والإلمام بالقضايا السياسية والاجتماعية في تلك الفترة، أيضاً متابعاته التاريخية والآثارية المتعلقة بالمساجد، تدل على عنايته ودقته، وبالتالي اتسمت كتاباته بأنها شيقة لأنه كان يدون على طريقة “أهل الحديث”، وإن لم يكن ظاهراً عليه أنه محدثاً، فهو كان نسّاب وأخباري أكثر منه محدثاً، لكنه كان ينقل ويأخذ الأحداث بالمشافهة، والأحداث التي لم يكن قد عاشها، فهو ينقلها عمّن عاشها.
اليوم، كثير من الكتّاب المعاصرين تأثروا بالأثري، مثل عماد عبدالسلام رؤوف (مؤرخ ومحقق ومفكر عراقي) الذي تأثر بأسلوبه، وإن لم يقل ذلك علانية، لكن كان لديه استدلالات ونُقُول في بعض مؤلفاته عن مصادر هي من تصنيف وتأليف محمد بهجت الأثري.
حتى فلسطين الحبيبة كان لها الأثر من الأثري، يقول عنها “هي التي كانت مركز التطاحن بين قوى الشرق والغرب وكان مصابها الفادح، باعثاً لأمم الإسلام من عربٍ وأكرادٍ وتركمان، على اتحاد كلمتها، قد عادت لها اليوم محنة أمسها الدابر في مختلف شؤونها وأحوالها، وإذا محنتها هي محنة هذا الشرق العربي الإسلامي، تتلاقى عند همومه، وتتذامر من أجلها شعوبه”، فلقد اشترك في أغلب المؤتمرات المعنية بفلسطين، وكان من أكبر المدافعين عنها في زمنه، فلقد كانت قضية فلسطين قبل النكبة هي قضية من قضايا الأمة الإسلامية، وإذا كان الأثري معجباً بطريقة الوجود الإسلامي العثماني في شرق أوروبا وتوغله العسكري فيها، فمن الطبيعي أن نجده بين صفوف أنصار فلسطين والمدافعين عنها، تجسيداً لخلاصة أفكاره عن العروبة والإسلام، ففي أحد أشعاره عنها يقول:
اصبري في الحادث المستفحلِ إنما العزة أن تستقتلي
واسألي نيرون يذكي ناره في سواد الليل نور لأمل
وانهدي ما قارع الحق هوى باطلاً يوماً ولم ينخذلِ
لا تراعي من كمي مبطلٍ قوة الحق سلاح الأعزلِ
ساعفي بغداد أنضاء الهوى من بن العم وراء الكرملِ
رحمٌ وصولةٌ أوشاجها لم يقطعها نكال الدولِ
طالما راموا تفاريق العصا والعصا تلقف كيد الدجلِ
ومن هنا برزت مواقفه في نشاطاتٍ شتّى، لعل أهمها تأسيسه لجمعية الشبان المسلمين في العراق، فكان لتلك المواقف الأثر الطيب لدى أهل فلسطين، فكانت مواقفه ترفع شعار نجدة فلسطين وأهلها.
أخيراً، الكثير يجهل من هو راهب اللغة الأثري، وهذا واجب على الجميع إحياءه مثل التوحيدي وأبي النواس، إعلامياً وبكل المحافل، الأثري موسوعي الثقافة، وإذا كان لقبه الذي أسبغه عليه أستاذه، قد رافقه كظله منذ صباه، فإن أسفار البحث والدرس، أكسبته لقباً سيظل يلازمه إلى ما بعد الحياة، وبعد أن تنسحب ظلاله من الأرض، لقد صار اسمه مسبوقاً بلقب العلامة، فطوّق اسمه بغار المجد من البداية إلى النهاية، لم تأخذه الدنيا وجوائزها فظل حليف التواضع وشيخ الزهد. يقول الأثري: “الموت نقلة من دار إلى دار وعودة هذا الجسم الترابي إلى التراب، أما الروح التي تقمصته فتبقى حية خالدة بما قدمته من عم صالح، وأنا إنسان قامت حياتي منذ النشأة على الدرس والنظر والتأمل في سلسلة متصلة الحلقات، لذلك فإن عقل الإنسان باقٍ بما استطرف من أفكار”.
ونختم مما قاله الأثري والذي ينطبق على واقع اليوم: “إن التعصب في كل ألوانه وصوره وحالاته، لا يتجسد عند عامة الناس الذين يجهلون الحقائق والنيات في الصدور، وإنما يتجسد لدى الزعماء ممن ينتفعون من تلك العصبيات، فيدفعونهم نحوه بعد أن يغرسوه في نفوس أتباعهم استبقاءً لهيمنتهم عليهم، وحفاظاً على زعاماتهم ومنافعهم وما يمتلكون”.
________________
(*) كاتب ومفكر كويتي.