الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والبراكين والفيضانات، وغير ذلك مما يقلب موازين العباد، ويغيّر من الطبيعة التي اعتاد عليها الناس، تقع بأمر الله، فالكون وما فيه، ما نعلمه وما لا نعلمه، يسير بقدرة الله على خلقه؛ من الإنس والجن، والنبات والحيوان، والبحار والأنهار، والشجر والحجر، وغير ذلك، مما يعرفه الناس وما لا يعرفونه.
وهذه الكوارث تقع على المؤمن وغير المؤمن، والفرق بينهما أنها بالنسبة للمؤمنين تنقية لذنوبهم، وغسل لأدرانهم، ورصيد في ميزانهم، لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «كُلِّ ما يُصابُ بِهِ المسلمُ كفارةٌ، حتى النَّكْبَةَ يُنْكَبُها أو الشوكَةِ يُشاكُها» (صحيح مسلم، حديث رقم: 2574).
وعلى ذلك، فكل من يدّعي بالمطلق أن الزلازل، وغيرها من الكوارث التي تزلزل أركان البشرية، بسبب الذنوب والمعاصي فقط، فقد جانب الصواب، فعن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليْها عذاب في الآخرةِ، عذابُها في الدُّنيا، الفتنُ، والزلازلُ، والقتلُ» (سنن أبي داوود، حديث رقم: 4278).
وقد يكون وقوع الزلازل وكثرتها، علامة من علامات الساعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، ويَتَقارَبَ الزَّمانُ، وتَظْهَرَ الفِتَنُ، ويَكْثُرَ الهَرْجُ، وهُوَ القَتْلُ القَتْلُ، حَتّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المالُ فَيَفِيضَ» (صحيح البخاري، حديث رقم 1036).
ولعل هذا الحديث نرى في واقعنا تَحقُّق الكثير مما فيه، فلا يمر الشهر تلو الآخر إلا ونسمع بموت عالم من العلماء ممن يُشهد لهم بالعلم والربانية مع العمل، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَماءِ، حتّى إذا لَمْ يُبْقِ عالِمًا اتَّخَذَ النّاسُ رُؤُوسًا جُهّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا» (صحيح مسلم، حديث رقم: 2673).
وتقع الزلازل بشكل عام في أوقات مختلفة، ولا يمر العام إلا ونرى الزلازل تكْثر في العديد من مناطق المسلمين، وغيرها، وكان آخرها ما حدث من زلزال تركيا المدمِّر، الذي أصاب أيضًا الشمال السوري، وانتقل إلى أماكن أخرى، وتبعه الآلاف من الارتدادات الزلزالية الأخرى، وخلّف عشرات الآلاف من القتلى، نحسبهم من الشهداء، والله حسيبهم، وأكثر من 100 ألف من المصابين والجرحى، وعشرات الملايين من المشردين بلا مأوى، أو مُعين.
أما القتل في ديار المسلمين، فحدّث ولا حرج، وللأسف أصبح دم المسلم من أرخص الدماء، في كل مكان من أرض الله، في كردستان الشرقية، وفي ماينمار، يُقتل ويُشرد الملايين، ولا يتحرك المجتمع الدولي كما ينبغي، ناهيكم عن القتل العمد الذي حدث للآلاف من المصريين بعد أحداث 3 يوليو 2013، وما يحدث في العراق، واليمن، وليبيا، والإجرام المكتمل الأركان الذي يحدث في سورية من بشار الأسد، الذي قتل ما يقرب من مليون سوري، وشرّد الملايين، ودمّر البشر والحجر بالكيماوي، بمساعدة روسيا وإيران، وللأسف يُقتل أهل السُّنة في إيران ولا بواكي لهم، وفي أماكن أخرى كثيرة يُهان المسلم، ويُقتل أو يُعدم لخلاف هنا أو رأي هناك.
مع أن الله حذر من الاستهتار في قتل المسلمين، بما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لزوالُ الدُّنيا أهونُ على اللهِ من قتلِ مسلمٍ» (السنن الكبرى للبيهقي، 8/ 23).
هذا ما يحدث في دنيا الناس من كوارث وزلازل لا يطيقها البشر، ولا يتحملها الكثير من الناس، وتكون نتيجتها الخسران في الإنسان والممتلكات، والطرق والمباني والمؤسسات، والحجر والشجر، فما بالنا بيوم العرض الأكبر، يوم الزلزلة العظيم، الذي قال الله تعالى فيه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ {1} يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج).
فالموقف شديد الصعوبة على من حاد عن طريق الله، سهلٌ مُيسّر على من اتقى الله وراعى الحقوق، وأدى ما عليه من واجبات في دنيا الناس، ولا يتحمله كل البشر، فالسعيد هو الذي يستعدّ لهذا اليوم العظيم الذي يحار الناس فيه كالسكارى من شدة هوله.
ولعل الحديث الطويل الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه، يوضّح لنا جميعًا هذا الموقف العصيب يوم القيامة، حيث يقول النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم: «أنا سَيِّدُ النّاسِ يَومَ القِيامَةِ، وهلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذلكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ النّاسَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدّاعِي ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النّاسَ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ ما لا يُطِيقُونَ ولا يَحْتَمِلُونَ، فيَقولُ النّاسُ: ألا تَرَوْنَ ما قدْ بَلَغَكُمْ، ألا تَنْظُرُونَ مَن يَشْفَعُ لَكُمْ إلى رَبِّكُمْ؟ فيَقولُ بَعْضُ النّاسِ لِبَعْضٍ: علَيْكُم بآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، عليه السلام فيَقولونَ له: أنْتَ أبو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بيَدِهِ، ونَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ، وأَمَرَ المَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنا إلى رَبِّكَ، ألا تَرى إلى ما نَحْنُ فِيهِ، ألا تَرى إلى ما قدْ بَلَغَنا؟ فيَقولُ آدَمُ: إنّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنّه قدْ نَهانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي..»، وهكذا يذهبون إلى نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، والجميع يقول: نفسي نفسي، إلى أن قالوا: «اذْهَبُوا إلى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فيَقولونَ: يا مُحَمَّدُ أنْتَ رَسولُ اللهِ وخاتِمُ الأنْبِياءِ، وقدْ غَفَرَ اللهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنا إلى رَبِّكَ ألا تَرى إلى ما نَحْنُ فِيهِ، فأنْطَلِقُ فَآتي تَحْتَ العَرْشِ، فأقَعُ ساجِدًا لِرَبِّي، عز وجل، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ مِن مَحامِدِهِ وحُسْنِ الثَّناءِ عليه شيئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ على أحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقالُ: يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ فأرْفَعُ رَأْسِي، فأقُولُ: أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ أدْخِلْ مِن أُمَّتِكَ مَن لا حِسابَ عليهم مِنَ البابِ الأيْمَنِ مِن أبْوابِ الجَنَّةِ، وهُمْ شُرَكاءُ النّاسِ فِيما سِوى ذلكَ مِنَ الأبْوابِ، ثُمَّ قالَ: والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنّ ما بيْنَ المِصْراعَيْنِ مِن مَصارِيعِ الجَنَّةِ، كما بيْنَ مَكَّةَ وحِمْيَرَ، أوْ كما بيْنَ مَكَّةَ وبُصْرى» (حديث رقم: 4712).
اللهم اجعلنا ممن ينال شفاعة النبي المختار صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، يوم العرض الأكبر، ونجنا ممن نخشى ونخاف (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء).
_______________________________
(*) أستاذ فلسفة الأخلاق في جامعة إسطنبول صباح الدين زعيم سابقاً.