قد يعجب البعض من هذا العنوان ويقول: أي صلاة تتحدثون هنا والقابعون تحت الأنقاض يقارعون الأهوال ولا يدري أحدهم هل سيقضي نحبه ويلقى ربه أم ستكتب له النجاة؟! فهل يعقل أن تكون الصلاة واجبة على المسلم في هذه الحالة؟! ولو سلمنا أن المرء يستطيع أن يستجمع هدوءه ويتخلص من حالة الهلع والفزع فكيف سيتطهر للصلاة؟ وكيف يصلي وهو تحت الركام بالكاد يلتقط أنفاسه؟
بداية، نؤكد أن شرع الله عز وجل جاء برفع الحرج ودفع المشقة عن العباد، بل إن هذا أصل من الأصول التي يقوم عليها هذا الدين، وقد قامت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم على اعتبار هذا الأصل، مثل قوله تعالى: (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وبشروا» (رواه البخاري).
ولا يخفى على المسلم مكانة الصلاة في الإسلام، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي أول فريضة فرضت في الإسلام، وآخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمع أهل العلم على أنها لا تسقط في أي حال عن المسلم البالغ العاقل، ويستثنى من ذلك المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء، وليس هناك استثناء لغيرها؛ فالمسافر والمريض والمجاهد في سبيل الله، جاء في حقهم التيسير والتخفيف، ولكن لم يسقط عنهم التكليف، فهم مطالبون بأداء الفريضة، ولكن خفف الشارع عنهم فرخص للمسافر في قصر الصلاة وجمعها، كما رخص للمريض أن يصلي على أي حال يستطيع، قال الإمام النووي: أجمعت الأمة على أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعداً ولا إعادة عليه، قال أصحابنا ولا ينقص ثوابه عن ثوابه في حال القيام لأنه معذور، وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً»(1)، وفي الحديث الذي رواه البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جَنْب»، ومن صور التيسير أن من عجز عن الوضوء يرخص له في التيمم، ومن عجز عن استقبال القبلة فليصل إلى أي جهة، ويسقط عنه ستر العورة إن عجز عن سترها.
ويأتي السؤال: كيف سيصلي المسلم تحت الأنقاض وهو عاجز عن الوضوء والتيمم؟ وكيف يستقبل القبلة؟
أهل العلم أجمعوا على أن الصلاة لا تسقط عن المسلم البالغ العاقل إلا عن المرأة الحائض والنفساء
والجواب عن ذلك نقول: إن عجْز المسلم عن الوضوء أو التيمم من المسائل التي تكلم عنها الفقهاء قديماً وسموها «صلاة فاقد الطهورين»، والمسألة اختلف فيها أهل العلم والراجح من أقوالهم: أن المسلم تجب عليه الصلاة من غير طهارة إن عجز عن الوضوء والتيمم؛ للحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها: «أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فوجدها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم فقال أسيد بن حضير لعائشة جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيراً»(2).
وقد بوب الإمام البخاري على هذا الحديث بقوله: «باب إذا لم يجد ماءً ولا تراباً»، قال ابن رشيد: «كأن المصنف نزَّل فقد شرعية التيمم منزلة فقد التراب بعد شرعية التيمم، فكأنه يقول حكمهم في عدم المطهر -الذي هو الماء خاصة- كحكمنا في عدم المطهريْن الماء والتراب، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة؛ لأن الحديث ليس فيه أنهم فقدوا التراب، وإنما فيه أنهم فقدوا الماء فقط، ففيه دليل على وجوب الصلاة لفاقد الطهوريْن، ووجهه: أنهم صلوا معتقدين وجوب ذلك، ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا قال الشافعي وأحمد وجمهور المحدثين وأكثر أصحاب مالك»(3).
وقال الإمام ابن القيم: «وحالة عدم التراب كحالة عدم مشروعيته ولا فرق، فإنهم صلوا بغير تيمم لعدم مشروعية التيمم حينئذ فهكذا من صلى بغير تيمم لعدم ما يتيمم به فأي فرق بين عدمه في نفسه وعدم مشروعيته فمقتضى القياس والسُّنة أن العادم يصلي على حسب حاله، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يعيد لأنه فعل ما أمر به فلم يجب عليه الإعادة كمن ترك القيام والاستقبال والسترة والقراءة لعجزه عن ذلك فهذا موجب النص والقياس»(4).
وقال الإمام الشوكاني: قوله «فصلوا بغير وضوء» استدل بذلك جماعة من المحققين منهم المصنف على وجوب الصلاة عند عدم المطهرين الماء والتراب وليس في الحديث أنهم فقدوا التراب وإنما فيه أنهم فقدوا الماء فقط، ولكن عدم الماء في ذلك الوقت كعدم الماء والتراب؛ لأنه لا مطهر سواه، ووجه الاستدلال به أنهم صلوا معتقدين وجوب ذلك، ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا قال الشافعي وأحمد وجمهور المحدِّثين وأكثر أصحاب مالك(5).
بعض العلماء ذهبوا إلى أن المسلم تجب عليه الصلاة من غير طهارة إن عجز عن الوضوء والتيمم
والقول بوجوب أداء الفريضة لمن هم تحت الأنقاض هو القول الراجح الذي يؤيده الدليل.
وفي المسألة أقوالٌ أخرى سوى هذا القول الذي رجحناه، وقد ذكر ابن قدامة مذاهب العلماء في هذه المسألة، ورجح أن من عدم الطهورين صلى حسب حاله، ولا تلزمه الإعادة ولو وجد الماء في الوقت مستدلاً بحديث السيدة عائشة الذي ذكرنها منذ قليل؛ حيث قال: «ولنا ما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناساً لطلب قلادة أضلتها عائشة فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فنزلت آية التيمم ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا أمرهم بإعادة، فدل على أنها غير واجبة؛ ولأن الطهارة شرط، فلم تؤخر الصلاة عند عدمها، كالسترة واستقبال القبلة، وإذا ثبت هذا، فإذا صلى على حسب حاله، ثم وجد الماء أو التراب، لم يلزمه إعادة الصلاة في إحدى الروايتين، والأخرى عليه الإعادة، وهو مذهب الشافعي لأنه فقد شرط الصلاة، أشبه ما لو صلى بالنجاسة، والصحيح الأول لما ذكرنا من الخبر، ولأنه أتى بما أمر، فخرج عن عهدته لأنه شرط من شرائط الصلاة فيسقط عند العجز عنه، كسائر شروطها وأركانها، ولأنه أدى فرضه على حسبه، فلم يلزمه الإعادة، كالعاجز عن السترة إذا صلى عرياناً، والعاجز عن الاستقبال إذا صلى إلى غيرها، والعاجز عن القيام إذا صلى جالسا»(6).
القول بوجوب أداء الفريضة لمن هم تحت الأنقاض هو القول الراجح الذي يؤيده الدليل
والخلاصة: أنه على المسلم وهو في هذا الكرب الشديد أن ينصرف بقلبه وبكليته إلى الله رب العالمين الذي يقول للشيء: «كن فيكون»، فينوي بقلبه أن يؤدي فريضة الصلاة، ولن يُكَّلَفَ بما لا يستطيع، فما عليه إلا أن يكبر تكبيرة الإحرام «الله أكبر» ثم يحرك شفتيه بالقراءة والتسبيح، وإن استطاع أن يومئ برأسه للركوع والسجود فليفعل وإن لم يستطع فلا حرج عليه، فليقرأ ثم يقول: «الله أكبر» للركوع ويسبح بلسانه، ثم يقول: «سمع الله لمن حمده»، ثم يسجد ويدعو ويتضرع إلى الله أن يرفع عنه ما هو فيه، وهكذا باقي أفعال الصلاة؛ فدخول المسلم على الله وهو في هذه الحال هو أحوج ما يكون إليه، فإن سبق في علم الله تعالى النجاة فليحمد الله تعالى أنه في كربه وشدته لم يشغله عن ذكر الله شيء، وإن أتته منيته فهنيئاً له الشهادة فقد لقي الله تعالى ذاكراً مصلياً.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1) المجموع (4/ 310).
(2) رواه البخاري (329)، واللفظ له، ومسلم (367).
(3) فتح الباري (1/ 440).
(4) حاشية ابن القيم على تهذيب سنن أبي داود (1/ 61).
(5) نيل الأوطار (1/ 337).
(*) أستاذ الفقه وأصوله بجامعة أم القرى.