في ذكري موقعة بدر، كان الميلاد العظيم للهيئة الخيرية الإسلامية العلمية، وليد جديد ظهر إلى حيز الوجود ليأخذ بيد الشعوب الإسلامية الفقيرة إلى طريق العلم والنور والكفاية بعد أن عانت زمناً طويلاً من الجهل والفاقة والجوع والحرمان.
ورغبة من “المجتمع” في تسليط الضوء على أهداف هذه الهيئة ودوافع تأسيسها، كان هذا اللقاء مع عدد من الدعاة المؤسسين لهذه الهيئة.
د. يوسف القرضاوي (جامعة قطر):
البواعث كثيرة، وأبرزها في نظري هو مواجهة الغزو العقائدي الحضاري والثقافي الذي يتعرض له المسلمون في بلاد شتى؛ لأنهم يؤذون في عقر دارهم، ويراد أن يخرجوا من دينهم كما تفعل ذلك الهيئات المعادية للإسلام وتستغل ضحايا الفقر والجوع واليتم والتشرد لتنشر فيها عقائدها وأفكارها، وصدق أبو ذر رضي الله عنه حين قال: “إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معاك”، ومن هنا انطلقت الفكرة أن نحمي هؤلاء المسلمين من الغزاة الجدد الذين لا يقاتلون بالسلاح كما كان الصليبيون القدامى، ولكن يقاتلون بأسلحة أخرى تتمثل في الظاهر عمل الخير وإطعام الجائع وغير ذلك، ومن هنا كانت الفكرة أن يكون العمل عملاً اجتماعياً خيرياً، واخترنا اسم الهيئة “الهيئة الخيرية”، المقصود بالفعل هذا هو دفع الفكرة، وقد علمت أن المبشرين الأمريكان اجتمعوا عام 1978م في كولورادو وقرروا بصراحة تنصير المسلمين في العالم ونشر ذلك في كتب، ورصدوا لذلك ألف مليون دولار، فكان لا بد من أن نواجه الألف مليون مثلها، وكانت الفكرة والحمد لله أصبحت واقعة.
التنصير بلغ حداً من الخطورة حتى إنه توجد في بلد واحد مثل إندونيسيا مطارات تملكها المؤسسات التنصيرية بلغت أكثر من خمسين مطاراً ومؤسسات طبية وثقافية وتعليمية واجتماعية بالآلاف، وأحب أن أقول: إن التنصير يجد من الممولين شيئاً هائلاً حتى إن مليونيراً واحداً في الأشهر الأخيرة في جنوب أفريقيا تبرع للمنصرة إليزا التي كانت تعمل في الهند وأخذت جائزة “نوبل” بـ 175 مليون دولار، والمنصرون يعملون الشيء الكثير ولهم 230 ألف منصر في العالم، وعدد كبير منهم في البلاد الإسلامية، والمنصرون أنفسهم يشيعون أنهم مخفقون في البلاد الإسلامية، وهذا في الحقيقة إشاعة مقصودة لتنويم فريستهم وتخدير المسلمين حتى لا يشعروا بالخطر، ومن ناحية أخرى ليستدروا العطف من أغنيائهم وتتدفق المعونات عليهم فلا ينبغي أن نصدق هذا.
للأسف أقول: إن الجوع في البلاد الإسلامية قد بلغ مدى بعيداً، وهناك عدد من البلاد الإسلامية يطوقها حزام الجوع، ويموت الناس فيها هلكى لأنهم لا يجدون اللقمة التي تغذيهم، ونتائج الجفاف والأزمات وغير ذلك، ولهذا فإن هؤلاء يتعرضون لمخاطر شديدة، ونتيجة أيضاً بعض الحروب الإقليمية، ونتيجة الهجرة حيث اللاجئين في بلاد شتى، ويوجد كثير من المشردين والضائعين واليتامى، فمثلاً الصومال فيه 30 ألف طفل كانوا محتاجين إلى من يرعاهم، وللأسف لم يتقدم من أثرياء المسلمين من يتبنى هؤلاء قبل أن يتقدم مليونير بلجيكي وقال: أنا أرعى هؤلاء! هل يرعاهم لوجه الله تعالى؟ ماذا يلقن هؤلاء؟ فالفقر والجوع والتشرد في البلاد الإسلامية أصبح ظاهرة خطيرة لا بد أن تواجَه بعمل إقليمي، ولكن لا بد من عمل عالمي يتضامن عليه المسلمون كل حسب طاقته؛ لأن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، والمسلمون إذا اجتمعوا يستطيعون أن يكونوا قوة ضخمة، وأن يقفوا في مواجهة هذه التحديات وهم قادرون بفضل الله تعالى أولاً وبفضل العاملين المخلصين وبفضل التضافر والتعاون؛ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ) (الصف: 4)، نحن في معركة فعلاً، هي معركة ليست بالسلاح كما قلت، لكنها معركة نواجه بها قوة ضخمة وخطيرة ومؤيدة بالمال والعلم والتخطيط والدهاء، فلا بد أن نعمل على مستوى ما تعمل هذه القوى أو على مستوى عصرنا أو على مستوى ديننا إن كنا مسلمين حقاً، وأعتقد أننا قد بدأنا الطريق وسنسير فيه، وإذا صدق العزم وضح السبيل.
التوحيد أمل، ولكن لنكن واقعيين، تقوم في سبيل التوحيد عوائق كبيرة، المهم أن يكون هناك تعاون وتنسيق، والتعاون والتنسيق هذا منصوص عليه في أهداف الهيئة بصراحة: “تقوية الصلات بين الهيئات والمنظمات العاملة في الحقول التي تعمل فيها هذه الهيئة وعقد اللقاءات معها”، فالتنسيق لا بد منه والتعاون لا بد منه، إن لم نصل إلى التوحيد، ويكفينا التعاون والتنسيق في هذه المرحلة بحيث تضم الجهود بعضها إلى بعض، وتتكامل الأعمال، ويصب هذا على ذاك، وتتبادل الخبرات والمعلومات حتى يكون العمل في طريق واحد لهدف سام هو خدمة الأمة الإسلامية وخدمة المسلمين حيثما كانوا وحيثما ارتفعت مآذنهم في هذا العالم.
يجب أن تبقى هذه الهيئات شعبية حتى لا يكون للحكومات سلطان عليها، والحكومات لها ظروفها الخاصة وسياساتها الخاصة والضغوط عليها من هنا وهناك، فلا نريد لهذه الهيئة أن تتعرض لما تتعرض له الحكومات، والعمل الحكومي له قيوده الكثيرة، نريد أن تكون هذه الهيئة ومن يمثلها هيئات شعبية تنبثق من ضمير المسلم العادي، وتخاطب كل مسلم في كل مكان؛ ولذلك أنا أرى أننا ننجح عندما نصل إلى المواطن المسلم في كل بلد، المسلم الذي يستطيع أن يساهم ولو بريال أو دولار، لذلك رفعنا شعار “ادفع دولاراً تنقذ مسلماً”، والمسلم الذي يدفع دولاراً يعتبر ذلك شيئاً قليلاً، ولكن القليل على القليل كثير، والقطرات يمكن أن تكون نهراً إن شاء الله، ويبارك الله في القليل إن كانت وراءه النية الخالصة، فشعبية هذا العمل أمر نحرص عليه كل الحرص، ولكن لم نمنع في نظامنا أن نقبل المساعدات الحكومية ما دامت متفقة مع هدف الهيئة.
___________________________________________________________
العدد (677)، 26 رمضان 1404هـ/ 26 يونيو 1984م، ص18-25.