الشيخ عبدالله بن جبرين
من المناسب أن نذكر شيئاً من منافع هذا الحج، ومن منافع هذه المناسك التي يُحْرِم بها المسلمون، ويتقربون بها إلى الله، التي بينها نبينا صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقال: «خذوا عني مناسككم».
ولا شك أن هذا الحج الذي هو عبارة عن الإحرام والطواف والسعي وما يتصل به، هو أعمال بدنية، وأعمال قولية، وأعمال مالية.
وهذه الأعمال ونحوها ما شرعت إلا لعبادة الله، وما شرعت إلا للتزود من معرفة الله سبحانه وتعالى، وما شرعت أيضاً إلا لمنافع عظيمة تفوق العد والحساب؛ ولأجل ذلك ذكر العلماء أن فيها منافع، واستدلوا بقول الله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (الحج).
وقد بحث العلماء عن هذه المنافع فقالوا: لا بد أن تكون هناك منافع متعددة.
ولا شك أن أعظم المنافع كون العبد يتقرب إلى الله تعالى بهذه القربة وبهذا المنسك، ويطلب من الله تعالى الثواب والأجر، ويطلب منه أن يضاعف له أجره على ما يتجشم من مشقة وتعب ونصب، فذلك منفعة عظيمة؛ حيث إنه يترتب على ذلك ثواب عظيم.
وقد عدّد العلماء للحج منافع عدة: بدنية، ومالية، وثقافية، واجتماعية، وعلمية، ولا بد أن تجتمع هذه المنافع كلها في هذه المناسك، ولا بد أن يشعر بها من كان حقاً من أهل المعرفة ومن أهل التأثر.
ولأهمية معرفة منافع الحج، والحكمة التي شرع من أجلها، فإننا نحب أن نذكر شيئاً من هذه المنافع، علَّ الله أن ينفع بها.
نسأل الله أن يكتبها في ميزان أعمالنا، إنه سميع مجيب، ونسأله تعالى أن يزيدنا من معرفته، ومعرفة أحكام عبادته، إنه هو السميع العليم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أولاً: منافع السَّفَر:
المسلم الذي يتجشم المشقة، ويأتي من مكان بعيد، ربما يسافر ثلاثة أشهر، وربما نصف سنة، وربما يغيب عن أهله سنة كاملة، كل ذلك لأجل أن يؤدي هذا الحج!
فما الذي يحمله على ذلك؟
يترجح أن الحامل له شعوره بحق الله عليه، وشعوره بأن ربه أحب منه هذا الأمر -الذي هو التجشم- وهذا السفر؛ فهذا لا شك أن فيه نية خالصة تدفع العبد إلى أن يصبر على الصعوبات، وأن يصبر على المشقات وأن يستسهل الصعاب.
فيستسهلون الصعاب، ويبذلون أوقاتهم وأموالهم في تذليل تلك الصعاب؛ حتى يحصلوا على مطلبهم.
ولا شك أن الإنسان عندما يسافر مسيرة شهر أو نصف شهر أو يوماً أو أياماً، لا شك أنه يلاقي هذه المشقات، وهذه الصعوبات، ولا شك أنها تمرن نفسه وتدربه على أن يصبر على الصعوبات والمشقات التي قد يلاقيها في حياته، وهذه منفعة من المنافع، وهي تمرين النفس على هذه الصعوبات والمشقات كالرفع والحطِّ والنزول والركوب والمشي والجلوس والنوم، وما أشبه ذلك.
كذلك فإنك لا شك تمر بديار لم تسمع بها أو لم ترها؛ فتأخذ منها عبرة، فتنظر إلى هذه البلاد وتتذكر أنه قد مر بها قبلك فلان وفلان، وأنها بلدة العالم فلان أو الأمير فلان، أو نحو ذلك، فتزداد معلوماتك.
وهكذا أيضاً، فإنك تمرن نفسك على الجوع والجهد الذي قد تلاقيه في بعض الأحيان؛ فتزداد صبراً وتحملاً.
كل ذلك بلا شك من آثار الصبر وتحمل المشقات والصعوبات التي يسببها هذا السفر الذي هو سفر الحج.
ومن منافع السفر صحبة الصالحين الأخيار الذين تجتمع معهم في سيارة كبيرة مثلاً أو صغيرة، أو في باخرة، أو في غرفة، أو في خيمة ونحو ذلك.
ولا شك أن المسلم يكسب من هذه الصحبة منافع كثيرة، منها: المودة والمعرفة وزيادة المعلومات، فكل ذلك من المنافع التي أخبر بها الله في الحج.
ثانيًا: مَنَافِع الإحْرَام:
عندما يقبل المسلم إلى المواقيت التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم المحيطة بالحرم يعرف أنه قرب من هذا المكان الذي أمر الله تعالى بالتوجه إليه في قوله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، فإذا أتى وقرب من هذه الأماكن المقدسة استعد لذلك، فأولُ عمل يقوم به هو أن يتجرد من ثيابه المعتادة، ويلبس ثياباً خاصة.
ما المنفعة من هذا اللباس الذي يشبه لباس الموتى؟!
من هذه المنافع أنه يتذكر الانتقال من الدنيا! وأنه هكذا يخرج منها، فيخاطب نفسه قائلاً: فأنا الآن قد خلعت زينتي، وخلعت لباسي، وجميع ما كنت أتجمل به، وارتديت رداء ألقيته على ظهري، وإزاراً سترت به عورتي، فهذا يذكّرني بالحال الأخروية، ويذكّرني بالدار الآخرة، ويذكّرني بالانتقال من الدنيا.
ومن المنافع اتفاق الحجاج كلهم على هذا اللباس، لا فرق بين غنيّهم وفقيرهم! وبين أسودهم وأحمرهم وأبيضهم! وبين صغيرهم وكبيرهم! كل الرجال على حال واحدة! لا شك أن ذلك يفيد أن الناس كلهم على حدٍّ سواء، مستوون عند الله سبحانه وتعالى، بمعنى أنهم في الحق سواء، وأنهم في العبودية سواء.
عند ذلك يشعر الغني أنه مساوٍ لغيره، لا فرق بينه وبين الفقراء، فيحمله ذلك على أن يتعاطف معهم، ويحسن إليهم، ويواسيهم، ويعلم أنه وإياهم إخوة، وأنهم متساوون في حق الله تعالى وفي حق عبادته.
ويحمله ذلك أيضاً على أن يتواضع لله ولا يتكبر، ولا يغترَّ بنفسه إذا علم بأن جميع المسلمين على حد سواء في هذه الحال، فيزول ما بين المسلمين من البغضاء.
ثالثًا: منافع التّلبية:
أول شيء يبدأ به الحاج -قبل أن يعقد النية- أن يعزم على أن يدخل في النُّسك الذي يريده، فإذا عزم فإنه يعقد النية ويرفع صوته بالتلبية.
فما المنفعة من هذه التلبية؟ ولماذا شرعت عند الإحرام بالعمرة أو بالحج وجُعلت شعاراً للحجاج؟
لا شك أن لهذه التلبية منفعة عظيمة؛ ذلك لأنها إجابة لدعوة الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام عندما أمره ربه بهذا النداء بقوله: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)، وأنه صعد على جبل أبي قبيس فقال: يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فسمعه من هو في أصلاب الرجال، ومن هو في أرحام النساء، فصاروا يأتون قائلين: لبيك، لبيك، أي: نحن مجيبون لدعوتك، ملبون لطلبك، فلا شك أنها إجابة لنداء الله سبحانه وتعالى.
وهذا النداء الذي أمر الله تعالى به، الذي نحن نجيبه بهذه التلبية، لا بد أن يكون له أثر، وهذا الأثر هو أننا نلتزم الإجابة في كل الحالات، ليس في هذه الحالة فقط؛ ذلك لأن الملبي كأنه يعاهد ربه على أن يلتزم بالطاعة مرات متتابعة ولا يخل بها، إذا قال: «لبيك» فمعناها: أنا مجيب لدعوتك، أنا ملازم لطلبك، أنا ملازم لطاعتك، أنا مجيب لك مرة بعد مرة، لا أتخلف عن عبادتك، ولا أتخلف عن طاعتك.
هكذا ذكروا أن هذه فائدة التلبية، ومعناها أن الذي يلبي كأنه يلزم نفسه، كأنه يقول: إني ملتزم بطاعتك يا رب دائماً؛ وإذا كان كذلك فلا يجوز له أن يتخلف عن هذه الطاعة ولا يتركها إلى المعصية، فلا يرجع إلى المعصية لأنه عاهد ربه بهذه التلبية، وأجاب ربه بهذه التلبية التي فيها الالتزام، فلا يجوز له أن يتخلف عنها فيما بعد ويترك الطاعة ويجعل بدلها معصية فيكون قد كذب في قوله: لبيك، ولم يصدق فيما التزم به.
_____________________________________
من كتاب «الحج منافعه وآثاره».